تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة الأخلاق المحمودة في الإسلام - متجدد


البراء الحريري
04-29-2025, 02:48 AM
الأخلاق المحمودة في الإسلام

إن مكارم الأخلاق عند الناس تكون بالمعاملة الحسنة، والإصلاح بين المتخاصمين والعفو والتسامح مع الآخرين، وصلة الرحم وحسن المعاشرة مع أهل البيت والجيران والأقارب، لتكون هنا أجمل الأخلاق الحميدة ومكارمها. لقد تطوّر مفهوم “مكارم الأخلاق” في الإدراك والسلوك الإنساني عبر تاريخ البشرية، ثم كانت البعثة المحمدية المحطة النهائية من محطات إنضاج ذلك المفهوم، كما يشير إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق."

فالخلق صفة جميلة ومقدسة يفتقدها الكثير من الناس، في التعامل بأخلاق الكلام الجميل وحلاوة الأسلوب بالرفق واللين بالعمل وفي مجالات الحياة المختلفة، إنّ أساس هذا الدّين العظيم هو مكارم الأخلاق ومحاسنها. والأخلاق الإسلامية صالحه للتطبيق في كل زمان ومكان وهي تفرِض على جميع المسلمين المعاملة الحسنة والحميدة مع المسلمين وغير المسلمين على مختلف أديانهم وأفكارهم. فالإسلام والأخلاق وجهان لعملة واحدة، ومما لا شكَّ فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة التي يجب أن يُحتذى بها، ولهذا يجب على المسلمين اتّباع أخلاقه وصفاته، وأن سبب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس مكارم الأخلاق.

ومن أهمية الأخلاق في الإسلام وعظيم قدرها أنه جعلها هي الواسطة والرابط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه, وذلك حين قال سبحانه: «.. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين» آل عمران/159.
بل لقد جعل الله تعالى حسن الخلق هو السبيل إلى تحقيق التقوى وهي المنزلة التي يرجو المسلم بلوغها, قال تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين(133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134)» آل عمران.
هكذا صار حسن الخلق وإتمام مكارم الأخلاق هما سبيل المؤمنين لبلوغ أسمى الغايات, وتحقيق أغلى الأمنيات.
وكما يحب الله مكارم الأخلاق فإنه سبحانه يبغض الفاحش البذيء, قال صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق, وإن الله يبغض الفاحش البذيء» رواه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح.
هذا هو حسن الخلق ومكانته عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مكارم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام, وحض أتباعه على التمسك بها والتخلق بها في السخط والرضا, وفي القول والفعل, فإذا عمل المسلم بمقتضى ذلك وجعل بينه وبين مكارم الأخلاق صلة رحم يصلها في جميع أحواله ولا يفرط فيها مهما كانت مغارمها, فإن ما ينتظره من الأجر والمثوبة عند الله تعالى وحسن السمعة في الدنيا ما يعوضه عما قد يفقده بالتزامه حسن الخلق, وتمسكه بما أوجبه الإسلام عليه من التعفف عن الحرام طمعا فيما عند الله تعالى من حسن المثوبة وجزيل الأجر.

ولقد مدح اللهُ تعالى نبيه الأكرم بحسن الخُلق في غير موضع من القرآن الكريم فمن ذلك قوله في سورة القلم: ((وإنك لعلى خُلقٍ عظيم))، وأرشد نبينُا صلى الله عليه وسلم أمتَه إلى التزام الأخلاق الطِّيبة فقال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه البيهقي عن أبي هريرة. وعن أبي ذَرٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيضًا: ((وخَالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن)) أي عاملهم بالحُسنى كما تُحب أن يُعاملوك.
فكم من عدوٍ انقلب صديقًا بسبب حُسن الخلق، وكم من طالبٍ غايةً أدركها بمكارم الأخلاق، وكم من بلدٍ انتشر فيها الإسلام بغير سيفٍ ولا غزوٍ بل بمحاسن الأخلاق كأندونيسيا أكبر بلدٍ إسلاميٍ اليوم حيث كان أهل البلاد وثنيين فآمنوا بسبب ما لمسوه من أخلاق تُجَّارٍ حضارمةٍ ((نسبةً إلى حضرموت في اليمن))

من خلال هذا الموضوع سأعمل على بيان سلسلة الأخلاق التي حث عليها ديننا الحنيف معتمدا على مجموعة من المصادر والمراجع ومواقع الانترنت ومن أهمها ( موقع مؤسسة الدرر السنية ) والذي سيكون المصدر الرئيسي للمعلومات في هذه السلسلة من الأخلاق المحمودة .

ومن أهم العناوين التي سيتضمنها موضوعنا إن شاء الله :

الاحترامُ والتَّوقيرُ
الإحسانُ إلى الغَيرِ
الإصلاحُ
الاعتِدالُ والوَسَطيَّةُ
الإعراضُ عن الجاهِلينَ
الأُلفةُ
الأمانةُ
الإنصاتُ
الإيثارُ
البِرُّ
البَشاشةُ
التَّأنِّي (الأناةُ)
التَّثَبُّتُ
التَّضْحيةُ
التَّعاوُنُ
التَّغافُلُ
التَّفاؤُلُ
التَّواصي بالخيرِ
التَّواضُعُ
التَّودُّدُ
الجِدِّيَّةُ والحَزمُ
الجُودُ، والكَرَمُ، والسَّخاءُ، والبَذْلُ
الحَذَرُ واليَقَظةُ والحَيطةُ
حُسْنُ السَّمْتِ
حُسْنِ الظَّنِّ
حُسنُ العِشرةِ والجِوارِ
حِفظُ اللِّسانِ
الحِكمةُ
الحِلمُ
الحَياءُ
الرَّحمةُ
الرِّفْقُ
الزُّهدُ فيما في أيدي النَّاسِ
السَّترُ
السَّكينةُ
سلامةُ الصَّدرِ
السَّماحةُ
الشَّجاعةُ
الشَّفَقةُ
الشُّكرُ
الشَّهامةُ
الصَّبرُ
الصِّدقُ
الصِّلةُ والتَّواصُلُ
الصَّمتُ
العَدلُ والإنصافُ
العِزَّةُ
العَزمُ والعَزيمةُ وعُلُوُّ الهِمَّةِ
العِفَّةُ
العَفْوُ والصَّفحُ
الغَيْرةُ
الفِراسةُ
الفَصاحةُ
الفِطنةُ والذَّكاءُ
القناعةُ
القُوَّةُ
كِتمانُ السِّرِّ
كَظمُ الغَيظِ
المَحَبَّةُ
المُداراةُ
المُروءةُ
المُزاحُ
المُواساةُ
النَّزاهةُ
النَّشاطُ
النُّصْرةُ
النَّصيحةُ
النَّظافةُ
الوَرَعُ
الوَفاءُ
الوَقارُ والرَّزانةُ

وقبل ذلك سأعمل على بيان مقدمات مهمة في الأخلاق والسلوك على الشكل التالي :

1- معنى الأخلاقِ لُغةً واصطِلاحًا
2- مَعنى السُّلوكِ لُغةً واصطِلاحًا
3- الفرقُ بَينَ الأخلاقِ والسُّلوكِ
4- أهميَّةُ الأخلاقِ
5- فضائِلُ التَّخَلُّقِ بالأخلاقِ الحَسَنةِ
6- مصادِرُ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ
7- أقسامُ الأخلاقِ
8- خصائِصُ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ
9- اكتسابُ الأخلاقِ
10- وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ
11- موقِفُ أعداءِ المُسلِمين من الأخلاقِ الإسلاميَّةِ
12- من أقوالِ أعداءِ الإسلامِ والمُسلمينَ
13- ادِّعاءُ نِسبيَّةِ الأخلاقِ

والله ولي التوفيق

البراء الحريري
04-29-2025, 02:51 AM
مقدمات في الأخلاق والسلوك

أولاً - معنى الأخلاقِ ومعنى السلوك لُغةً واصطِلاحًا والفرق بينهما
معنى الأخلاقِ لُغةً واصطِلاحًا
معنى الأخلاقِ لُغةً:
الأخلاقُ جَمعُ خُلُقٍ، والخُلقُ -بضَمِ اللَّامِ وسُكونِها- هو الدِّينُ والطَّبعُ والسَّجيَّةُ (وهو ما خُلِقَ عليه مِنَ الطَّبعِ) والمُروءةُ، وحَقيقةُ الخُلُقِ أنَّه لصورةِ الإنسانِ الباطِنةِ، وهي نَفسُه وأوصافُها ومَعانيها المُختَصَّةُ بها بمَنزِلةِ الخَلقِ لصورَتِه الظَّاهرةِ وأوصافِها ومَعانيها .
وقال الرَّاغِبُ: (والخَلقُ والخُلقُ في الأصلِ واحِدٌ... لكِن خُصَّ الخَلقُ بالهَيئاتِ والأشكالِ والصُّورِ المُدرَكةِ بالبَصَرِ، وخُصَّ الخُلُقُ بالقوى والسَّجايا المُدرَكةِ بالبَصيرةِ) .
وحَقيقةُ الخُلُقِ في اللُّغةِ: هو ما يَأخُذُ به الإنسانُ نَفسَه منَ الأدَبِ، يُسَمَّى خُلُقًا؛ لأنَّه يَصيرُ كالخِلقةِ فيه.
مَعنى الأخلاقِ اصطِلاحًا:
عَرَّف الجُرجانيُّ الخُلُقَ بأنَّه: (عِبارةٌ عن هَيئةٍ للنَّفسِ راسِخةٍ تَصدُرُ عنها الأفعالُ بسُهولةٍ ويُسرٍ من غَيرِ حاجةٍ إلى فِكرٍ ورَويَّةٍ، فإن كان الصَّادِرُ عنها الأفعالَ الحَسَنةَ كانتِ الهَيئةُ خُلُقًا حَسَنًا، وإن كان الصَّادِرُ منها الأفعالَ القَبيحةَ سُمِّيَتِ الهَيئةُ التي هي مَصدَرُ ذلك خُلُقًا سَيِّئًا) .
وعَرَّفه ابنُ مِسكَوَيهِ بقَولِه: (الخُلُقُ: حالٌ للنَّفسِ داعيةٌ لها إلى أفعالِها من غَيرِ فِكرٍ ولا رَويَّةٍ، وهذه الحالُ تَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: منها ما يَكونُ طَبيعيًّا من أصلِ المِزاجِ، كالإنسانِ الذي يُحَرِّكُه أدنى شَيءٍ نَحوَ غَضَبٍ، ويَهيجُ من أقَلِّ سَبَبٍ، وكالإنسانِ الذي يَجبُنُ من أيسَرِ شَيءٍ، أو كالذي يَفزَعُ من أدنى صَوتٍ يَطرُقُ سَمعَه، أو يَرتاعُ من خَبَرٍ يَسمَعُه، وكالذي يَضحَكُ ضَحِكًا مُفرِطًا من أدنى شَيءٍ يُعجِبُه، وكالذي يَغتَمُّ ويَحزَنُ من أيسَرِ شَيءٍ يَنالُه. ومنها ما يَكونُ مُستَفادًا بالعادةِ والتَّدَرُّبِ، ورُبَّما كان مَبدَؤُه بالرَّويَّةِ والفِكرِ، ثمَّ يَستَمِرُّ أوَّلًا فأوَّلًا، حتَّى يَصيرَ مَلَكةً وخُلُقًا) .
وقال السُّيوطيُّ: (الخُلُقُ: مَلَكةٌ نَفسانيَّةٌ تَصدُرُ عنها الأفعالُ النَّفسانيَّةُ بسُهولةٍ من غَيرِ رَويَّةٍ.
وقيل: هو اسمٌ جامِعٌ للقوى المُدرَكةِ بالبَصيرةِ، وتُجعَلُ تارةً للقوى الغَريزيَّةِ، وتارةً للحالةِ المُكتَسَبةِ التي بها يَصيرُ الإنسانُ خَليقًا أن يَفعَلَ شَيئًا دونَ شَيءٍ) .
وقيل: (الخُلُقُ صِفةٌ مُستَقِرَّةٌ في النَّفسِ -فِطريَّةٌ أو مُكتَسَبةٌ- ذاتُ آثارٍ في السُّلوكِ مَحمودةٍ أو مَذمومةٍ) .
وقد عَرَّف بَعضُ الباحِثينَ الأخلاقَ في نَظَرِ الإسلامِ بأنَّها عِبارةٌ عن (مَجموعةِ المَبادِئِ والقَواعِدِ المُنَظِّمةِ للسُّلوكِ الإنسانيِّ، التي يُحَدِّدُها الوَحيُ؛ لتَنظيمِ حَياةِ الإنسانِ، وتَحديدِ علاقَتِه بغَيرِه على نَحوٍ يُحَقِّقُ الغايةَ من وُجودِه في هذا العالَمِ على أكمَلِ وَجهٍ) .
وأمَّا الأخلاقُ كعِلمٍ فقد عُرِّفت بعِدَّةِ تَعريفاتٍ، منها:
1- هو (عِلمٌ: مَوضوعُه أحكامٌ قِيَميَّةٌ تَتَعلَّقُ بالأعمالِ التي توصَفُ بالحُسنِ أوِ القُبحِ) .
2-وقيل هو: (عِلمٌ: يوضِّحُ مَعنى الخَيرِ والشَّرِّ، ويُبَيِّنُ ما يَنبَغي أن تَكونَ عليه مُعامَلةُ النَّاسِ بَعضِهم بَعضًا، ويَشرَحُ الغايةَ التي يَنبَغي أن يَقصِدَ إليها النَّاسُ في أعمالِهم، ويُنيرُ السَّبيلَ لِما يَنبَغي) .

مَعنى السُّلوكِ لُغةً واصطِلاحًا
مَعنى السُّلوكِ لُغةً:
السُّلوكُ: مَصدَرُ سَلكَ، يُقالُ: سَلَكَ يَدَه في الجَيبِ والسِّقاءِ ونَحوِهما، يَسلُكُها، وأسلَكَها: أدخَلها فيهما، وسَلَك الطَّريقَ: إذا ذَهَبَ فيه، والمَسلَكُ: الطَّريقُ، والسُّلوكُ: سيرةُ الإنسانِ ومَذهَبُه واتِّجاهُه، يُقالُ: فلانٌ حَسَنُ السُّلوكِ أو سَيِّئُ السُّلوكِ .
معنى السُّلوكِ اصطِلاحًا:
السُّلوكُ: هو المَظهَرُ الخارِجيُّ للخُلُقِ .
أو: هو أعمالُ المرءِ الإراديَّةُ المُتَّجِهةُ نَحوَ غايةٍ مُعَيَّنةٍ مَقصودةٍ، كَقَولِ الصِّدقِ والكَذِبِ، وأعمالِ الشَّجاعةِ والجُبنِ، والكَرَمِ والبُخلِ، ونَحوِها.
أو: هو الأفعالُ التي تَصدُرُ عنِ الحالةِ الرَّاسِخةِ الكامنةِ في النَّفسِ .

الفرقُ بَينَ الأخلاقِ والسُّلوكِ

الأخلاقُ صورةُ النَّفسِ الباطِنةُ، والسُّلوكُ هو صورَتُها الظَّاهرةُ التي تَدُلُّ عليها، ونَحن نَستَدِلُّ على طَبيعةِ أخلاقِ المَرءِ بسُلوكِه الظَّاهرِ .
فالخُلُقُ حالةٌ راسِخةٌ في النَّفسِ، وليس شيئًا خارِجًا مَظهَريًّا، فالأخلاقُ شَيءٌ يَتَّصِلُ بباطِنِ الإنسانِ، ولا بُدَّ لنا من مَظهَرٍ يَدُلُّنا على هذه الصِّفةِ النَّفسيَّةِ، وهذا المَظهَرُ هو: السُّلوكُ؛ فالسُّلوكُ: هو المَظهَرُ الخارِجيُّ للخُلُقِ، فنَحن نَستَدِلُّ منَ السُّلوكِ المُستَمِرِّ لشَخصٍ ما على خُلُقِه، فالسُّلوكُ دَليلُ الخُلُقِ، ورَمزٌ له، وعُنوانُه، فإذا كان السُّلوكُ حَسَنًا دَلَّ على خُلُقٍ حَسَنٍ، وإن كان السُّلوكُ سَيِّئًا دَلَّ على خُلُقٍ قَبيحٍ، كما أنَّ الشَّجَرةَ تُعرَفُ بالثَّمَرِ، فكَذلك الخُلُقُ الحَسَنُ يُعرَفُ بالأعمالِ الطَّيِّبةِ .

( يتبع – أهمية الأخلاق )

البراء الحريري
04-29-2025, 03:01 AM
تابع - مقدمات في الأخلاق والسلوك

أهميَّةُ الأخلاقِ

أوَّلًا: الالتِزامُ بالأخلاقِ الحَسَنةِ واجتِنابُ السَّيِّئِ منها طاعةٌ للَّهِ ورَسولِه.
وقد تَضافرَتِ النُّصوصُ من كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ على الأمرِ بالتَّخَلُّقِ بالأخلاقِ الحَسَنةِ، ونَصَّت على الكَثيرِ منها؛ فمن ذلك قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] .
وقولُه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
وقولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا علَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6] .
وكذلك نهت عن الأخلاقِ المذمومةِ، ومن ذلك:
قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 11-12] .
ولمَّا كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمتَثِلُ أمرَ اللهِ تعالى في كُلِّ شَأنِه قَولًا وعَمَلًا، ويَأتَمِرُ بكُلِّ أخلاقٍ حَسَنةٍ ورَدَ الأمرُ بها في القُرآنِ، ويَنتَهي عن كُلِّ أخلاقٍ سَيِّئةٍ ورَدَ النَّهيُ عنها في القُرآنِ؛ لذا كان خُلُقُه القُرآنَ. وأيضًا فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُ بحُسنِ الخُلُقِ؛ فعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اتَّقِ اللهَ حَيثُما كُنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحَسَنةَ تَمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ)) ؛ لذا فإنَّ الالتِزامَ بالأخلاقِ الحَسَنةِ طاعةٌ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثانيًا: الأخلاقُ الحَسَنةُ أحَدُ مُقَوِّماتِ شَخصيَّةِ المُسلمِ
فــ(الإنسانُ جَسَدٌ ورُوحٌ، ظاهِرٌ وباطِنٌ، والأخلاقُ الإسلاميَّةُ تُمَثِّلُ صورةَ الإنسانِ الباطِنةَ، والتي مَحَلُّها القَلبُ، وهذه الصُّورةُ الباطِنةُ هي قِوامُ شَخصيَّةِ الإنسانِ المُسلمِ، فالإنسانُ لا يُقاسُ بطولِه وعَرضِه، أو لونِه وجَمالِه، أو فَقرِه وغِناه، وإنَّما بأخلاقِه وأعمالِه المُعَبِّرةِ عن هذه الأخلاقِ، يَقولُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] ، ويَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى أجسادِكُم ولا إلى صورِكُم، ولكِن يَنظُرُ إلى قُلوبِكُم وأعمالِكُم)) ، ويَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا: ((ليَنتَهِيَنَّ أقوامٌ يَفتَخِرونَ بآبائِهمُ الذينَ ماتوا، إنَّما هم فَحمُ جَهَنَّمَ، أو ليَكونُنَّ أهونَ على اللهِ مِنَ الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخِراءَ بأنفِه، إنَّ اللهَ أذهب عنكم عُبِّـيَّةَ الجاهليَّةِ وفَخْرَها بالآباءِ، إنَّما هو مُؤمِنٌ تَقيٌّ، وفاجِرٌ شَقيٌّ، النَّاسُ بَنو آدَمَ، وآدَمُ خُلِقَ من تُرابٍ)) ) .
ثالثًا: الارتِباطُ الوثيقُ بَينَ الأخلاقِ والدِّينِ الإسلاميِّ عَقيدةً وشَريعةً
إنَّ ارتِباطَ الأخلاقِ بالعَقيدةِ وثيقٌ جِدًّا؛ لذا فكَثيرًا ما يَربُطُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بَينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، الذي تُعَدُّ الأخلاقُ الحَسَنةُ أحَدَ أركانِه، فالعَقيدةُ دونَ خُلُقٍ شَجَرةٌ لا ظِلَّ لها ولا ثَمَرةَ، أمَّا عنِ ارتِباطِ الأخلاقِ بالشَّريعةِ فإنَّ الشَّريعةَ منها عِباداتٌ، ومنها مُعامَلاتٌ، والعِباداتُ تُثمِرُ الأخلاقَ الحَسَنةَ ولا بُدَّ، إذا ما أقامَها المُسلمُ على الوَجهِ الأكمَلِ؛ لذا قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] ،وقال في الزَّكاةِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] ، وقال في الصَّومِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَمَلَ به فليس للَّهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طَعامَه وشَرابَه)) . وقال في الحَجِّ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197] .
وأمَّا صِلةُ الأخلاقِ بالمُعامَلاتِ فإنَّ المُعامَلاتِ كُلَّها قائِمةٌ على الأخلاقِ الحَسَنةِ في أقوالِ المُسلمِ وأفعالِه، والمُتَأمِّلُ لتَعاليمِ الإسلامِ يَرى هذا واضِحًا جَليًّا.
رابعًا: الأخلاقُ لها آثارٌ عَظيمةٌ في سُلوكِ الفردِ والمُجتَمَعِ
(تَظهَرُ أهَمِّيَّةُ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ لِما لها من أثَرٍ في سُلوكِ الفردِ، وفي سُلوكِ المُجتَمَعِ.
أمَّا أثَرُها في سُلوكِ الفردِ فلِما تَزرَعُه في نَفسِ صاحِبِها منَ الرَّحمةِ والصِّدقِ، والعَدلِ والأمانةِ، والحَياءِ والعِفَّةِ، والتَّعاوُنِ والتَّكافُلِ، والإخلاصِ والتَّواضُعِ.. وغَيرِ ذلك منَ القِيَمِ والأخلاقِ السَّاميةِ، فالأخلاقُ بالنِّسبةِ للفردِ هي أساسُ الفلاحِ والنَّجاحِ؛ يَقولُ تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9-10] ، ويقولُ سُبحانَه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14-15] ، والتَّزكيةُ في مَدلولِها ومَعناها تَعني: تَهذيبَ النَّفسِ باطِنًا وظاهرًا في حَرَكاتِه وسَكَناتِه.
وأمَّا أثَرُها في سُلوكِ المُجتَمَعِ كُلِّه، فالأخلاقُ هي الأساسُ لبناءِ المُجتَمَعاتِ الإنسانيَّةِ إسلاميَّةً كانت أو غَيرَ إسلاميَّةٍ، يُقَرِّرُ ذلك قَولُه تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1-3] .
فالعَمَلُ الصَّالحُ المُدَعَّمُ بالتَّواصي بالحَقِّ، والتَّواصي بالصَّبرِ في مواجَهةِ المُغرِياتِ والتَّحَدِّياتِ من شَأنِه أن يَبنيَ مُجتَمَعًا مُحَصَّنًا لا تَنالُ منه عَوامِلُ التَّرَدِّي والانحِطاطِ، وليس ابتِلاءُ الأمَمِ والحَضاراتِ كامنًا في ضَعفِ إمكاناتِها المادِّيَّةِ أو مُنجَزاتِها العِلميَّةِ، إنَّما في قيمَتِها الخُلُقيَّةِ التي تَسودُها وتَتَحَلَّى بها) .
خامِسًا: مَكارِمُ الأخلاقِ ضَرورةٌ اجتِماعيَّةٌ
(إنَّ أيَّ مُجتَمَعٍ منَ المُجتَمَعاتِ الإنسانيَّةِ لا يَستَطيعُ أفرادُه أن يَعيشوا مُتَفاهمينَ مُتَعاوِنينَ سُعَداءَ ما لم تَربُطْ بَينَهم رَوابطُ مَتينةٌ منَ الأخلاقِ الكَريمةِ.
ولو فرَضْنا احتِمالًا أنَّه قامَ مُجتَمَعٌ منَ المُجتَمَعاتِ على أساسِ تَبادُلِ المَنافِعِ المادِّيَّةِ فقَط من غَيرِ أن يَكونَ وراءَ ذلك غَرَضٌ أسمى؛ فإنَّه لا بُدَّ لسَلامةِ هذا المُجتَمَعِ من خُلُقَي الثِّقةِ والأمانةِ على أقَلِّ التَّقاديرِ.
فمَكارِمُ الأخلاقِ ضَرورةٌ اجتِماعيَّةٌ لا يَستَغني عنها مُجتَمَعٌ منَ المُجتَمَعاتِ، ومَتى فُقِدَتِ الأخلاقُ التي هي الوسيطُ الذي لا بُدَّ منه لانسِجامِ الإنسانِ مَعَ أخيه الإنسانِ تفكَّكَ أفرادُ المُجتَمَعِ وتَصارَعوا، وتَناهَبوا مَصالحَهم، ثمَّ أدَّى بهم ذلك إلى الانهيارِ ثمَّ إلى الدَّمارِ.
منَ المُمكِنِ أن تَتَخَيَّلَ مُجتَمَعًا منَ المُجتَمَعاتِ انعَدَمَت فيه مَكارِمُ الأخلاقِ كَيف يَكونُ هذا المُجتَمَعُ؟!
كَيف تَكونُ الثِّقةُ بالعُلومِ والمَعارِفِ والأخبارِ، وضَمانُ الحُقوقِ لولا فضيلةُ الصِّدقِ؟!
كَيف يَكونُ التَّعايُشُ بَينَ النَّاسِ في أمنٍ واستِقرارٍ، وكَيف يَكونُ التَّعاوُنُ بَينَهم في العَمَلِ ضِمنَ بيئةٍ مُشتَرَكةٍ، لولا فضيلةُ الأمانةِ؟
كيف تَكونُ أمَّةٌ قادِرةً على إنشاءِ حَضارةٍ مُثلى لولا فضائِلُ التَّآخي والتَّعاوُنِ، والمَحَبَّةِ والإيثارِ؟
كَيف تَكونُ جَماعةٌ مُؤَهَّلةً لبناءِ مجدٍ عَظيمٍ لولا فضيلةُ الشَّجاعةِ في رَدِّ عُدوانِ المُعتَدينَ وظُلمِ الظَّالمينَ، ولولا فضائِلُ العَدلِ والرَّحمةِ والإحسانِ والدَّفعِ بالتي هي أحسَنُ؟!
كَيف يَكونُ الإنسانُ مُؤَهَّلًا لارتِقاءِ مَراتِبِ الكَمالِ الإنسانيِّ إذا كانت أنانيَّتُه مُسَيطِرةً عليه، صارِفةً له عن كُلِّ عَطاءٍ وتَضحيةٍ وإيثارٍ؟
لقد دَلَّتِ التَّجرِباتُ الإنسانيَّةُ والأحداثُ التَّاريخيَّةُ أنَّ ارتِقاءَ القُوى المَعنَويَّةِ للأمَمِ والشُّعوبِ مُلازِمٌ لارتِقائِها في سُلَّمِ الأخلاقِ الفاضِلةِ، ومُتَناسِبٌ مَعَه، وأنَّ انهيارَ القُوى المَعنَويَّةِ للأمَمِ والشُّعوبِ مُلازِمٌ لانهيارِ أخلاقِها، ومُتَناسِبٌ مَعَه، فبَينَ القُوى المَعنَويَّةِ والأخلاقِ تَناسُبٌ طَرديٌّ دائِمًا صاعِدَينِ وهابطَينِ.
وذلك لأنَّ الأخلاقَ الفاضِلةَ في أفرادِ الأمَمِ والشُّعوبِ تُمَثِّلُ المَعاقِدَ الثَّابتةَ التي تُعقَدُ بها الرَّوابطُ الاجتِماعيَّةُ، ومتى انعَدَمَت هذه المَعاقِدُ أوِ انكَسَرَت في الأفرادِ لم تَجِدِ الرَّوابطُ الاجتِماعيَّةُ مَكانًا تَنعَقِدُ عليه، ومَتى فُقِدَتِ الرَّوابطُ الاجتِماعيَّةُ صارَتِ المَلايينُ في الأمَّةِ المُنحَلَّةِ عن بَعضِها مُزَوَّدةً بقوَّةِ الأفرادِ فقَط، لا بقوَّةِ الجَماعةِ، بل رُبَّما كانتِ القوى المُبَعثَرةُ فيها بَأسًا فيما بَينَها، مُضافًا إلى قوَّةِ عَدوِّها.
وإذا كانتِ الأخلاقُ في أفرادِ الأمَمِ تُمَثِّلُ مَعاقِدَ التَّرابُطِ فيما بَينَهم، فإنَّ النُّظُمَ الإسلاميَّةَ الاجتِماعيَّةَ تُمَثِّلُ الأربطةَ التي تَشُدُّ المَعاقِدَ إلى المَعاقِدِ، فتَكونُ الكُتلةُ البَشَريَّةُ المُتَماسِكةُ القَويَّةُ التي لا تهونُ ولا تَستَخذي) .
سادِسًا: أهَمِّيَّةُ الأخلاقِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ
(الذي يَظُنُّ أنَّ النَّاسَ يدخُلونَ في الدِّينِ فقَط لأنَّهم يَقتَنِعونَ عَقليًّا فقَط، لا شَكَّ أنَّه مُخطِئٌ... وكَثيرٌ منَ النَّاسِ يدخُلونَ في الدِّينِ لأنَّهم يَرَونَ أنَّ أهلَ هذا الدِّينِ على خُلُقٍ، وأنَّ الدُّعاةَ إلى اللهِ عِندَهم أخلاقٌ، والشَّواهِدُ في هذا البابِ كَثيرةٌ... فالاستِقامةُ على الأخلاقِ لها أثَرٌ كَبيرٌ، ونَفعُها بَليغٌ، ولا أدَلَّ على ذلك ممَّا جاءَ في السِّيرةِ النَّبَويَّةِ من أنَّ أخلاقَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانت مَحَلَّ إعجابِ المُشرِكينَ قَبلَ البَعثةِ، حتَّى شَهِدوا له بالصِّدقِ والأمانةِ.
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لمَّا نَزَلت هذه الآيةُ: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرَأيتَكُم لو أخبَرتُكُم أنَّ خَيلًا تَخرُجُ بسَفحِ هذا الجَبَلِ أكنُتُم مُصَدِّقيَّ؟ قالوا: ما جَرَّبنا عليك كَذِبًا. قال: فإنِّي نَذيرٌ لكُم بَينَ يَدَي عَذابٍ شَديدٍ)) .
وقد بَدَأ انعِكاسُ الصُّورِ السُّلوكيَّةِ الرَّائِعةِ في تَأثيرِها في انتِشارِ هذا الدِّينِ في بَعضِ المَناطِقِ التي لم يَصِلْها الفتحُ؛ إذ دَخَل في هذا الدِّينِ الحَنيفِ شُعوبٌ بكامِلِها لمَّا رَأوا القُدوةَ الحَسَنةَ مُرتَسِمةً خُلُقًا حَميدًا في أشخاصٍ مُسلمينَ صالحينَ مارَسوا سُلوكَهمُ الرَّشيدَ، فكانوا كَحامِلِ مِصباحٍ يُنيرُ طَريقَه لنَفسِه بمِصباحِه، فيَرى الآخَرونَ ذلك النُّورَ ويَرَونَ به، وليس أجمَلَ منه في قَلب الظَّلامِ، وبناءً على ذلك الإقبالِ سَريعًا دونَ دافِعٍ سِوى القُدوةِ الحَسَنةِ، فرُبَّ صِفةٍ واحِدةٍ ممَّا يَأمُرُ بها الدِّينُ تُتَرجَمُ حَيَّةً على يَدِ مُسلمٍ صالحٍ يَكونُ لها أثَرٌ لا يُمكِنُ مُقارَنَتُه بنَتائِجِ الوعظِ المُباشِرِ؛ لأنَّ النُّفوسَ قد تَنفِرُ منَ الكَلامِ الذي تَتَصَوَّرُ أنَّ للنَّاطِقِ به مَصلحةً، وأحسَنُ من تلك الصِّفاتِ التَّمَسُّكُ بالأخلاقِ الحَميدةِ التي هي أوَّلُ ما يُرى منَ الإنسانِ المُسلمِ، ومن خِلالها يُحكَمُ له أو عليه...) .
سابعًا: أهَمِّيَّةُ الأخلاقِ في إضفاءِ السَّعادةِ على الأفرادِ والمُجتَمَعاتِ
لا شَكَّ أنَّ السَّعادةَ كُلَّ السَّعادةِ في الإيمانِ باللهِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وعلى قَدرِ امتِثالِ المُسلمِ لتَعاليمِ الإسلامِ في سُلوكِه وأخلاقِه تَكونُ سَعادَتُه، فـ(التِزامُ قَواعِدِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ كَفيلٌ بتَحقيقِ أكبَرِ نِسبةٍ من... السَّعادةِ للفَردِ الإنسانيِّ، وللجَماعةِ الإنسانيَّةِ، ثمَّ لسائِرِ الشُّرَكاءِ في الحَياةِ على هذه الأرضِ، وذلك بطَريقةٍ بارِعةٍ جدًّا يَتِمُّ فيها التَّوفيقُ بالنِّسَبِ المُستَطاعةِ بَينَ حاجاتِ ومَطالِبِ الفردِ من جِهةٍ، وحاجاتِ ومَطالِبِ الجَماعةِ من جِهةٍ أخرى، ويَتِمُّ فيها إعطاءُ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه، أو قِسطًا من حَقِّه وَفقَ نِسبةٍ عادِلةٍ اقتَضاها التَّوزيعُ العامُّ المَحفوفُ بالحَقِّ والعَدلِ.
فمنَ الواضِحِ في هذا العُنصُرِ أنَّ أسُسَ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ لم تُهمِلِ ابتِغاءَ سَعادةِ الفردِ الذي يُمارِسُ فضائِلَ الأخلاقِ ويَجتَنِبُ رَذائِلَها، ولم تُهمِلِ ابتِغاءَ سَعادةِ الجَماعةِ التي تَتَعامَلُ فيما بَينَها بفضائِلِ الأخلاقِ مُبتَعِدةً عن رَذائِلِها.
ورَوعةُ الأخلاقِ التي أرشَدَ إليها الإسلامُ تَظهَرُ فيما اشتَمَلت عليه منَ التَّوفيقِ العَجيبِ بَينَ المَطالِبِ المُختَلفةِ للفردِ من جِهةٍ، وللجَماعةِ من جِهةٍ أخرى، وتَظهَرُ فيما تُحَقِّقُه من وحَداتِ السَّعادةِ الجُزئيَّةِ في ظُروفِ الحَياةِ الدُّنيا بقدرِ ما تَسمَحُ به سُنَنُ الكَونِ الدَّائِمةُ الثَّابتةُ التي تَشمَلُ جَميعَ العامِلينَ، مُؤمنينَ باللهِ أو كافِرينَ، أخلصوا له النِّيَّةَ أو لم يُخلِصوا) .

( يتبع -فضائِلُ التَّخَلُّقِ بالأخلاقِ الحَسَنةِ )

مسترٍيَحٍ آلُبآلُ
04-29-2025, 12:33 PM
بارك الله فيك اخي براء

الولهان عبدالله
04-29-2025, 10:49 PM
بارك لله فيك

راما
04-29-2025, 11:04 PM
،.

بارك الله فيك
أخي البراء الحريري
وجزاك الله خيراً
وجعله في ميزان حسناتك
:123:

نبض غلاك
04-30-2025, 05:25 AM
البراء
جزاك الله خير

البراء الحريري
04-30-2025, 04:18 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

فضائل التخلق بالأخلاق الحسنة

1- الأخلاقُ الحَسَنةُ من أسبابِ دُخولِ الجَنَّةِ:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا زَعيمٌ ببَيتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببَيتٍ في وسَطِ الجَنَّةِ لمَن تَرَكَ الكَذِبَ وإن كان مازِحًا، وببَيتٍ في أعلى الجَنَّةِ لِمَن حَسُن خُلُقُه)) .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((سُئِل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكثَرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فقال: تَقوى اللهِ وحُسنُ الخُلُقِ، وسُئِل عن أكثَرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فقال: الفَمُ والفَرجُ)) .
2- الأخلاقُ الحَسَنةُ سَبَبٌ في مَحَبَّةِ اللهِ لعَبدِه:
وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى مَحَبَّتَه لمَن يَتَخَلَّقُ بالأخلاقِ الحَسَنةِ، والتي منها الصَّبرُ والإحسانُ والعَدلُ وغَيرُ ذلك، فقد قال اللهُ تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] .
وقال أيضًا: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] .
وقال أيضًا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] .
وسُئِل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فمَن أحَبُّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ؟ قال: أحسَنُهم خُلُقًا)) .
3- الأخلاقُ الحَسَنةُ من أسبابِ مَحَبَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من أحَبِّكُم إليَّ وأقرَبِكُم منِّي مَجلِسًا يَومَ القيامةِ أحاسِنَكُم أخلاقًا)) .
4- مَكارِمُ الأخلاقِ أثقَلُ شَيءٍ في الميزانِ يَومَ القيامةِ:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من شَيءٍ أثقَلُ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ)) .
5- الأخلاقُ الحَسَنةُ من أسبابِ رِفعةِ الدَّرَجاتِ:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ المُؤمنَ يُدرِكُ بحُسنِ خُلُقِه دَرَجاتِ قائِمِ اللَّيلِ صائِمِ النَّهارِ)) .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ المُسلِمَ المُسَدَّدَ ليُدرِكُ دَرَجةَ الصَّوَّامِ القَوَّامِ بآياتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لكَرَمِ ضَريبَتِه وحُسنِ خُلُقِه)) .
6- الأخلاقُ الحَسَنةُ علامةٌ على كَمالِ الإيمانِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أكمَلُ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا، وخيارُكُم خيارُكُم لنِسائِهم)) .

( يتبع – مصادر الأخلاق الإسلامية )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:19 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

مصادِرُ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ

يُمكِنُ أن نُجمِلَ مَصادِرَ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ في مَصدَرَينِ رَئيسَينِ، هما أعظَمُ ما تُستَمَدُّ منه هذه الأخلاقُ: كِتابُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وسُنَّةُ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّحيحةُ:
فالقُرآنُ الكَريمُ هو المَصدَرُ الأوَّلُ للأخلاقِ، والآياتُ التي تضمنَّت الدَّعوةَ إلى مَكارِمِ الأخلاقِ والنَّهيَ عن مَساوِئِها كَثيرةٌ؛ منها قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .
وقولُه تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] إلى غيرِ ذلك.
ويَدُلُّنا على أصالةِ هذا المَصدَرِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي وصَفه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بالخُلُقِ العَظيمِ تَصِفُه عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها بقَولِها: ((فإنَّ خُلُقَ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان القُرآنَ)) . ومَعنى ذلك كما يَقولُ ابنُ كَثيرٍ: (أنَّه قد ألزَمَ نَفسَه ألَّا يَفعَلَ إلَّا ما أمَرّه به القُرآنُ، ولا يَترُكَ إلَّا ما نَهاه عنه القُرآنُ، فصارَ امتِثالُ أمرِ رَبِّه خُلُقًا له وسَجيَّةً، صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه إلى يَومِ الدِّينِ) .
والمَصدَرُ الثَّاني: السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ، والمُرادُ منَ السُّنَّةِ ما أضيف إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أقوالٍ وأفعالٍ وتَقريراتٍ، وتُعتَبَرُ السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ الصَّحيحةُ هي المَصدَرَ الثَّانيَ للأخلاقِ، يَقولُ اللهُ تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ[الحشر: 7] ، وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] ، وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59] ، وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما بُعِثتُ لأتَمِّمَ صالحَ الأخلاقِ)) . قال إبراهيمُ الحَربيُّ: (يَنبَغي للرَّجُلِ إذا سَمِعَ شَيئًا من آدابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَتَمَسَّكَ به) . (ولذا حَرَصَ الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم واهتَمُّوا اهتِمامًا كَبيرًا، وتَخَلَّقوا بالأخلاقِ الحَسَنةِ مُستَنِدينَ في ذلك إلى ما جاءَ في كِتابِ اللهِ سُبحانَه وتعالى وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهم قُدوتُنا وسَلَفُنا الصَّالحُ في الأخلاقِ) .

( يتبع – أقسام الأخلاق )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:20 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

أقسامُ الأخلاقِ

أوَّلًا: أقسامُ الأخلاقِ باعتبارِها فِطريَّةً أو مُكتَسَبةً

الأخلاقُ تَنقَسِمُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ: أخلاقٌ فِطريَّةٌ، وأخلاقٌ مُكتَسَبةٌ.
فبَعضُ أخلاقِ النَّاسِ أخلاقٌ فِطريَّةٌ قد جُبِلوا عليها، وتَظهَرُ فيهم مُنذُ بدايةِ نَشأتِهم، والبَعضُ الآخَرُ من أخلاقِهم مُكتَسَبٌ يَحصُلُ بالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ والمُجاهَدةِ. والأخلاقُ الفِطريَّةُ قابلةٌ للتَّنميةِ والتَّوجيهِ والتَّعديلِ؛ لأنَّ وُجودَ الأخلاقِ الفِطريَّةِ يَدُلُّ على وُجودِ الاستِعدادِ الفِطريِّ لتَنميَتِها بالتَّدريبِ والتَّعليمِ وتَكَرُّرِ الخِبراتِ، والاستِعدادِ الفِطريِّ لتَقويمِها وتَعديلِها وتَهذيبِها.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن قُلتَ: هَل يُمكِنُ أن يَقَعَ الخُلُقُ كَسْبيًّا، أو هو أمرٌ خارِجٌ عنِ الكَسبِ؟
قُلتُ: يُمكِنُ أن يَقَعَ كَسبيًّا بالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ حتَّى يَصيرَ له سَجيَّةً ومَلَكةً).
واستَدَلَّ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأشَجِّ عَبدِ القَيسِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((إنَّ فيك خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ، قال: يا رَسولَ اللهِ، أنا أتَخَلَّقُ بهما أم اللهُ جَبَلني عليهما؟ قال: بل اللَّهُ جَبَلك عليهما، قال: الحَمدُ للَّهِ الذي جَبَلني على خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورَسولُه)) .
قال: (فدَلَّ على أنَّ منَ الخُلُقِ ما هو طَبيعةٌ وجِبلَّةٌ، وما هو مُكتَسَبٌ. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في دُعاءِ الاستِفتاحِ: ((اللَّهمَّ اهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عنِّي سَيِّئها لا يَصرِفُ عنِّي سَيِّئَها إلَّا أنتَ)) ، فذَكَرُ الكَسبَ والقَدَرَ. واللهُ أعلمُ) .
(إنَّنا نَجِدُ مَثَلًا الخَوفَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ الطَّمَعَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ فريقًا منَ النَّاسِ مَفطورًا على سُرعةِ الغَضَبِ، بَينَما نَجِدُ فريقًا آخَرَ مَفطورًا على نِسبةٍ ما منَ الحِلمِ والأناةِ وبُطءِ الغَضَبِ.
هذه المُتَفاوِتاتُ نُلاحِظُها حتَّى في الأطفالِ الصِّغارِ الذينَ لم تُؤَثِّرِ البيئةُ في تَكوينِهمُ النَّفسيِّ بَعدُ.
وقد جاءَ في أقوالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُثبِتُ هذا التَّفاوُتَ الفِطريَّ في الطِّباعِ الخُلُقيَّةِ وغَيرِها:
منها ما رَواه البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((النَّاسُ مَعادِنُ كمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا)) .
ومنها: ما رَواه أحمَدُ في مُسنَدِه والتِّرمِذيُّ وأبو داوُدَ بإسنادٍ صَحيحٍ عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ من قَبضةٍ قَبَضَها من جَميعِ الأرضِ، فجاءَ بَنو آدَمَ على قَدرِ الأرضِ؛ جاءَ منهمُ الأبيَضُ والأحمَرُ والأسوَدُ وبَينَ ذلك، والخَبيثُ والطَّيِّبُ والسَّهلُ والحَزْنُ وبَينَ ذلك)) .
وفي قَولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "النَّاسُ مَعادِنُ"دَليلٌ على فُروقِ الهِباتِ الفِطريَّةِ الخِلقيَّةِ، وفيه يُثبِتُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ خيارَ النَّاسِ في التَّكوينِ الفِطريِّ هم أكرَمُهم خُلقًا، وهذا التَّكوينُ الخُلُقيُّ يُرافِقُ الإنسانَ ويُصاحِبُه في كُلِّ أحوالِه. فإذا نَظَرْنا إلى مَجموعةٍ منَ النَّاسِ غَيرِ مُتَعلِّمةٍ ولا مُهَذَّبةٍ، أو في وسَطِ مُجتَمَعٍ جاهليٍّ، فإنَّه لا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم أحاسِنُهم أخلاقًا، فهم خَيَرُهم مَعدِنًا، وأفضَلُهم سُلوكًا اجتماعيًّا، ثمَّ إذا نَقَلْنا هذه المَجموعةَ كُلَّها فعلَّمْناها وهَذَّبْناها وأنقَذْناها من جاهليَّتِها، ثمَّ نَظَرْنا إليها بَعدَ ذلك نَظرةً عامَّةً لنَرى من هو أفضَلُهم، فلا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم من كان قدِ امتازَ سابقًا؛ لأنَّ العِلمَ والتَّهذيبَ والإيمانَ تَمُدُّ من كان ذا خُلُقٍ حَسَنٍ في أصلِ فِطرَتِه، فتَزيدُه حُسنَ خُلُقٍ واستِقامةَ سُلوكٍ، وتَزيدُه فضلًا، ثمَّ إذا جاءَ الفِقهُ في الدِّينِ كان ارتِقاءُ هؤلاء فيما فُضِّلوا به ارتِقاءً يَجعلُهم همُ السَّابقينَ على من سِواهم لا مَحالةَ، وبذلك تَكونُ فُروقُ النِّسبةِ لصالحِهم فَضلًا وكَرَمًا) .

ثانيًا: أقسامُ الأخلاقِ باعتبارِ عَلاقاتِها

تَنقَسِمُ الأخلاقُ باعتِبارِ عَلاقاتِها إلى أربَعةِ أقسامٍ:
(القِسمُ الأوَّلُ: ما يَتَعلَّقُ بوُجوهِ الصِّلةِ القائِمةِ بَينَ الإنسانِ وخالِقِه... والفضيلةُ الخُلُقيَّةُ في حُدودِ هذا القِسمِ تَفرِضُ على الإنسانِ أنواعًا كَثيرةً منَ السُّلوكِ الأخلاقيِّ: منها الإيمانُ به؛ لأنَّه حَقٌّ، ومنها الاعتِرافُ له بكَمالِ الصِّفاتِ والأفعالِ، ومنها تَصديقُه فيما يُخبرُنا به؛ لأنَّ من حَقِّ الصَّادِقِ تَصديقَه، ومنها التَّسليمُ التَّامُّ لِما يحكُمُ علينا به؛ لأنَّه هو صاحِبُ الحَقِّ في أن يَحكُمَ علينا بما يَشاءُ.
فكُلُّ هذه الأنواعِ منَ السُّلوكِ أمورٌ تَدعو إليها الفضيلةُ الخُلُقيَّةُ.
أمَّا دَواعي الكُفرِ بالخالقِ بَعدَ وُضوحِ الأدِلَّةِ على وُجودِه فهي حَتمًا دَواعٍ تَستَنِدُ إلى مَجموعةٍ من رَذائِلِ الأخلاقِ، منها الكِبرُ، ومنها ابتِغاءُ الخُروجِ على طاعةِ من تَجِبُ طاعَتُه؛ استِجابةً لأهواءِ الأنفُسِ وشَهَواتِها، ومنها نُكرانُ الجَميلِ وجُحودُ الحَقِّ...
القِسمُ الثَّاني: ما يَتَعلَّقُ بوُجوهِ الصِّلةِ بَينَ الإنسانِ وبَينَ النَّاسِ الآخَرينَ.
وصُوَرُ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الحَميدِ في حُدودِ هذا القِسمِ مَعروفةٌ وظاهرةٌ: منها الصِّدقُ، والأمانةُ، والعِفَّةُ، والعَدلُ، والإحسانُ، والعَفوُ، وحُسنُ المُعاشَرةِ، والمواساةُ والمَعونةُ، والجودُ، وهكذا إلى آخِرِ جَدوَلِ فضائِلِ الأخلاقِ التي يَتَعَدَّى نَفعُها إلى الآخَرينَ منَ النَّاسِ.
أمَّا صورُ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الذَّميمِ في حُدودِ هذا القِسمِ فهي أيضًا مَعروفةٌ وظاهرةٌ: منها الكَذِبُ، والخيانةُ، والظُّلمُ، والعُدوانُ، والشُّحُّ، وسوءُ المُعاشَرةِ، وعَدَمُ أداءِ الواجِبِ، ونُكرانُ الجَميلِ، وعَدَمُ الاعتِرافِ لذي الحَقِّ بحَقِّه، وهكذا إلى آخِرِ جَدولِ رَذائِلِ الأخلاقِ التي يَتَعَدَّى ضَرَرُها إلى الآخَرينَ منَ النَّاسِ.
القِسمُ الثَّالثُ: ما يَتَعلَّقُ بوُجوهِ الصِّلةِ بَينَ الإنسانِ ونَفسِه.
وصُوَرُ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الحَميدِ في حُدودِ هذا القِسمِ كَثيرةٌ: منها الصَّبرُ على المَصائِبِ، ومنها الأناةُ في الأمورِ، ومنها النِّظامُ والإتقانُ في العَمَلِ، ومنها عَدَمُ استِعجالِ الأمورِ قَبلَ أوانِها، وكُلُّ ذلك يَدخُلُ في حُسنِ إدارةِ الإنسانِ لنَفسِه، وحِكمَتِه في تَصريفِ الأمورِ المُتَعلِّقةِ بذاتِه.
وصُوَرُ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الذَّميمِ في حُدودِ هذا القَسَمِ تَأتي على نَقيضِ صُوَرِ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الحَميدِ.
القِسمُ الرَّابعُ: ما يَتَعلَّقُ بوُجوهِ الصِّلةِ بَينَ الإنسانِ والأحياءِ غَيرِ العاقِلةِ.
ويَكفي أن تَتَصَوَّرَ منَ السُّلوكِ الأخلاقيِّ الحَميدِ في حُدودِ هذا القَسَمِ الرَّحمةَ بها، والرِّفقَ في مُعامَلتِها، وتَأديةَ حُقوقِها الواجِبةِ. أمَّا الظُّلمُ والقَسوةُ وحِرمانُها من حُقوقِها فهي من قَبائِحِ الأخلاقِ، وفي هذا يَقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رَواه البُخاريُّ ومُسلِمٌ عنِ ابن عُمَرَ: ((عُذِّبَتِ امرَأةٌ في هرَّةٍ سَجَنتها حتَّى ماتَت فدَخَلت فيها النَّارَ، لا هي أطعَمَتْها ولا سَقَتها إذ حَبَسَتها، ولا هي تَركَتْها تَأكُلُ من خَشاشِ الأرضِ ) ...
ولا بُدَّ من مُلاحَظةِ أنَّ كَثيرًا منَ الأخلاقِ لها عَدَدٌ منَ الارتِباطاتِ والتَّعلُّقاتِ؛ ولذلك فقدَ تَدخُلُ في عَدَدٍ من هذه الأقسامِ في وقتٍ واحِدٍ؛ إذ قد تَكونُ لفائِدةِ الإنسانِ نَفسِه، وتَكونُ في نَفسِ الوقتِ لفائِدةِ الآخَرينَ، وتَكونُ مَعَ ذلك مُحَقِّقةً مَرضاةَ اللهِ تعالى) .

( يتبع – خصائص الأخلاق الإسلامية )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:21 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

خصائِصُ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ

أوَّلًا: الأخلاقُ الإسلاميَّةُ رَبَّانيَّةُ المَصدَرِ
الأخلاقُ الإسلاميَّةُ مصدَرُها كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا مَدخَلَ فيها للآراءِ البَشَريَّةِ، أوِ النُّظُمِ الوضعيَّةِ، أوِ الأفكارِ الفلسَفيَّةِ.
ولذا اتَّسَمَتِ الأخلاقُ الإسلاميَّةُ بسِمةِ الخُلودِ والصِّدقِ والصِّحَّةِ.
ثانيًا: الشُّمولُ والتَّكامُلُ
من خَصائِصِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ: أنَّها شامِلةٌ ومُتَكامِلةٌ، وهي خاصِّيَّةٌ مُنبَثِقةٌ منَ الخاصِّيَّةِ الأولى، وهي الرَّبَّانيَّةُ؛ وذلك لأنَّها تُراعي الإنسانَ والمُجتَمَعَ الذي يَعيشُ فيه، وأهدافَ حَياتِه طِبقًا للتَّصَوُّرِ الإسلاميِّ، تُحَدِّدُ أهدافَ الحَياةِ وغايَتَها وما وراءَها، وتَشمَلُ كافَّةَ مَناشِطِ الإنسانِ وتَوجُّهاتِه، وتَستَوعِبُ حَياتَه كُلَّها من جَميعِ جَوانِبِها، ثمَّ هي أيضًا لا تَقِفُ عِندَ حَدِّ الحَياةِ الدُّنيا.
ثالثًا: الأخلاقُ الإسلاميَّةُ صالحةٌ لكُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ
لمَّا كانتِ الأخلاقُ الإسلاميَّةُ رَبَّانيَّةَ المَصدَرِ، كانت صالحةً لجَميعِ النَّاسِ في كُلِّ زَمانٍ وفي أيِّ مَكانٍ، نَظَرًا لِما تَتَمَيَّزُ به من خَصائِصَ، فلا يَطرَأُ عليها أيُّ تَغييرٍ أو تَبديلٍ بسَبَبِ تَغَيُّرِ الظُّروفِ والأزمانِ؛ لأنَّها ليست نِتاجًا بَشَريًّا، بل هي وَحيٌ منَ اللهِ تعالى لنَبيِّه.
رابعًا: الإقناعُ العَقليُّ والوِجدانيُّ
تَشريعاتُ الإسلامِ تُوافِقُ العُقولَ الصَّحيحةَ، وتتواءمُ مَعَ الفِطَرِ السَّليمةِ، وتَحصُلُ القَناعةُ الكامِلةُ والانسِجامُ التَّامُّ مَعَ ما أتَت به الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ من نُظُمٍ أخلاقيَّةٍ.
فالأخلاقُ الإسلاميَّةُ بها يَقنَعُ العَقلُ السَّليمُ، ويَرضى بها القَلبُ، فيَجِدُ الإنسانُ ارتياحًا واطمِئنانًا تِجاهَ الحَسَنِ منَ الأخلاقِ، ويَجِدُ نُفرةً وقَلقًا تِجاهَ السَّيِّئِ منَ الأخلاقِ.
خامِسًا: المسؤوليَّةُ
الأخلاقُ الإسلاميَّةُ تَجعلُ الإنسانَ مسؤولًا عَمَّا يَصدُرُ منه في كُلِّ جَوانِبِ الحَياةِ، سَواءٌ كانت هذه المسؤوليَّةُ مسؤوليَّةً شَخصيَّةً أم مسؤوليَّةً جَماعيَّةً، ولا تَجعلُه اتِّكاليًّا لا يَأبَهُ بما يَدورُ حَولَه من أشياءَ، وهذه خاصِّيَّةٌ من خَصائِصِ أخلاقِنا انفرَدَت بها الشَّريعةُ الغَرَّاءُ.
ونَعني بالمسؤوليَّةِ الشَّخصيَّةِ أنَّ الإنسانَ مسؤولٌ عَمَّا يَصدُرُ منه عن نَفسِه؛ إن كان خَيرًا فخَيرٌ، وإن كان شَرًّا فشَرٌّ، وفي هذا الصَّدَدِ يَقولُ اللهُ تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
ويقولُ تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ علَى نَفْسِهِ [النساء: 111] .
ويقولُ تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء: 36] .
فهذه الآياتُ وغَيرُها تُبَيِّنُ لنا مَدى المسؤوليَّةِ التي تَقَعُ على عاتِقِ الإنسانِ عَمَّا يَصدُرُ منه. ويَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وإنَّ العَبدَ ليَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ من سَخَطِ اللَّهِ لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جَهَنَّمَ)) ، يَقولُ ابنُ حَجَرٍ في شَرحِ الحَديثِ: ("لا يُلقي لها بالًا": أي: لا يَتَأمَّلُ بخاطِرِه، ولا يَتَفكَّرُ في عاقِبَتِها، ولا يَظُنُّ أنَّها تُؤثِّرُ شَيئًا) ، فقَبل أن تَخرُجَ الكَلمةُ من فيك أعطِ نَفسَك فُرصةً للتَّفكيرِ، هل ما سَتَقولُه يُرضي اللهَ أم يُغضِبُه؟ هَل تَكونُ عاقِبَتُه خَيرًا أم شَرًّا؟ وطالما لم تَخرُجْ فأنتَ مالِكُها، فإذا خَرَجَت كُنتَ أسيرَها، وإذا كان هذا في الكَلامِ ففي سائِرِ التَّصَرُّفاتِ من بابِ أَولى.
ونَعني بالمسؤوليَّةِ العامَّةِ (الجَماعيَّةِ): تلك المسؤوليَّةَ التي تُراعي الصَّالحَ العامَّ للنَّاسِ، فلا يَكونُ الرَّجُلُ إمَّعةً مُتَكاسِلًا... أو سَلبيًّا، بل عليه أن يَأمُرَ بالمَعروفِ، وأن يَنهى عنِ المُنكَرِ: ((مَن رَأى منكُم مُنكَرًا فليُغَيِّرْه بيَدِه، فإن لم يَستَطِعْ فبلِسانِه، فإن لم يَستَطِعْ فبقَلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ)) .
سادِسًا: العِبرةُ بالظَّاهرِ والباطِنِ منَ الأعمالِ مَعًا
أخلاقُنا الإسلاميَّةُ لا تَكتَفي بالظَّاهرِ منَ الأعمالِ، ولا تَحكُمُ عليه بالخَيرِ والشَّرِّ بمُقتَضى الظَّاهرِ فقَط، بل يَمتَدُّ الحُكمُ ليَشمَلَ النَّوايا والمَقاصِدَ، وهي أمورٌ باطِنيَّةٌ؛ فالعِبرة إذًا بالنِّيَّةِ، يَقولُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) ... والنِّيَّةُ هي مَدارُ التَّكليفِ، وعلى ذلك فالإسلامُ يُراعي نيَّةَ الإنسانِ في الحُكمِ على عَمَلِه الظَّاهرِ.
سابعًا: الرَّقابةُ الدِّينيَّةُ
الرَّقابةُ: تَعني مُراقَبةَ المُسلمِ لجانِب مَولاه سُبحانَه في جَميعِ أمورِ الحَياةِ.
وعلى هذا فإنَّ الرَّقابةَ في أخلاقِنا الإسلاميَّةِ لها مَدلولُها المُستَقِلُّ والمُختَلِفُ عنِ الرَّقابةِ في مَصادِرِ الأخلاقِ الأخرى؛ حَيثُ تَكونُ رَقابةً خارِجيَّةً منَ الغَيرِ تَتَمَثَّلُ في رَقابةِ السُّلطةِ والأفرادِ.
أمَّا الرَّقابةُ في الإسلامِ فهي رَقابةٌ ذاتيَّةٌ في المَقامِ الأوَّلِ، وهي رَقابةٌ نابعةٌ منَ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ الصَّحيحةِ، ومن إيقاظِ الضَّميرِ، فإذا كان المُسلمُ يَعلمُ أنَّ اللهَ مَعَه، وأنَّه مُطَّلعٌ على حَرَكاتِه وسَكَناتِه، فإنَّه يَكونُ رَقيبًا على نَفسِه، ولا يَحتاجُ إلى رَقابةِ الغَيرِ عليه؛ يَقولُ تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4] ، ويقولُ سُبحانَه: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] ، ويقولُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ علَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ، فإذا قَرَأ المُسلِمُ هذه الآياتِ وعَرَف مَعناها فإنَّه حينَئِذٍ يَتَيَقَّنُ أنَّه إذا تَمَكَّنَ منَ الإفلاتِ من رَقابةِ السُّلطةِ، فإنَّه لن يَتَمَكَّنَ منَ الإفلاتِ من رَقابة اللَّهِ، وهذا في حَدِّ ذاتِه أكبَرُ ضَمانٍ لعَدَمِ الانحِرافِ والانسياقِ إلى الأخلاقِ المَذمومةِ.
ثامنًا: الأخلاقُ الإسلاميَّةُ تَرتَبطُ بالجَزاءِ الدُّنيَويِّ والأخرَويِّ
أخلاقُ الإسلامِ تَرتَبطُ ارتِباطًا وثيقًا بالجَزاءِ، سَواءٌ في الدُّنيا أوِ الآخِرةِ؛ لذا وُجِدَ الوعدُ والوعيدُ، والتَّرغيبُ والتَّرهيبُ.
فالأخيارُ منَ النَّاسِ: جَزاؤُهم عَظيمٌ في الدُّنيا والآخِرةِ: ومن ذلك ما أعَدَّه اللهُ لهم في الآخِرةِ كما في قولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] .
وكَذلك ما وعَدَهمُ اللهُ به في الدُّنيا منَ الجَزاءِ العاجِلِ؛ قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2-3] ، وقال أيضًا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .
وأمَّا الأشرارُ منَ النَّاسِ فقد تَوعَّدَهمُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ كما في قَولِه تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22] .
وأمَّا جزاؤهم في الدُّنيا فمثالُه قَولُه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112] .

( يتبع - اكتسابُ الأخلاقِ )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:22 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

اكتسابُ الأخلاقِ
(لدَينا حَقيقةٌ ثابتةٌ لا بُدَّ من مُلاحَظَتِها في مَجالِ كُلِّ تَكليفٍ رَبَّانيٍّ: هي أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى لا يُكَلِّفُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، فمسؤوليَّةُ الإنسانِ تَنحَصِرُ في نِطاقِ ما يَدخُلُ في وُسعِه، وما يَستَطيعُه من عَمَلٍ، أمَّا ما هو خارِجٌ عن وُسعِ الإنسانُ واستِطاعَتِه، فليس عليه مسؤوليَّةٌ نَحوَه، يُضافُ إلى ذلك أنَّ نِسبةَ المسؤوليَّةِ تَتَناسَبُ طَردًا وعَكسًا مَعَ مِقدارِ الاستِطاعةِ...
فما كان منَ الطِّباعِ الفِطريَّةِ قابلًا للتَّعديلِ والتَّبديلِ، ولو في حُدودِ نِسَبٍ جُزئيَّةٍ؛ لدُخولِه تَحتَ سُلطانِ إرادةِ الإنسانِ وقُدرَتِه، كان خاضِعًا للمسؤوليَّةِ، وداخِلًا في إطارِها تِجاهَ التَّكاليفِ الرَّبَّانيَّةِ، وما لم يَكُنْ قابلًا للتَّعديلِ والتَّبديلِ؛ لخُروجِه عن سُلطانِ إرادةِ الإنسانِ وقُدرَتِه، فهو غَيرُ داخِلٍ في إطارِ المسؤوليَّةِ تِجاهَ التَّكاليفِ الرَّبَّانيَّةِ.
وبناءً على ذلك فإنَّنا نَقولُ وَفْقَ المَفاهيمِ الدِّينيَّةِ: لو لم يَكُنْ لدى كُلِّ إنسانٍ عاقِلٍ قُدرةٌ على اكتِسابِ حَدٍّ ما منَ الفضائِلِ الأخلاقيَّةِ، لَما كَلَّفه اللَّهُ ذلك.
وليس أمرُ قُدرةِ الإنسانِ على اكتِسابِ حَدٍّ ما من كُلِّ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ بَعيدًا عنِ التَّصَوُّرِ والفهمِ، ولكِنَّه بحاجةٍ إلى مِقدارٍ مُناسِبٍ منَ التَّأمُّلِ والتَّفكيرِ.
أليستِ استِعداداتُ النَّاسِ لأنواعِ العُلومِ المُختَلفةِ مُتَفاوِتةً؛ فبَعضُهم أقدَرُ على تَعلُّمِ الفُنونِ الجَميلةِ من بَعض، وبَعضُهم أقدَرُ على تَعلُّمِ العُلومِ العَقليَّةِ من بَعضٍ، وبَعضُهم أقدَرُ على حِفظِ التَّواريخِ والحَوادِثِ أو حِفظِ النُّصوصِ من بَعضٍ؟
إنَّه... ما من إنسانٍ عاقِلٍ إلَّا ولدَيه قُدرةٌ على اكتِسابِ مِقدارٍ ما من فضائِلِ الأخلاقِ، وفي حُدودِ هذا المِقدارِ الذي يَستَطيعُه يَكونُ تَكليفُه، وتَكونُ مسؤوليَّتُه، ثمَّ في حُدودِه تَكونُ مُحاسَبَتُه ومُجازاتُه.
إنَّ أسرَعَ النَّاسِ استِجابةً لانفِعالِ الغَضَبِ يَستَطيعُ بوسائِلِ التَّربيةِ أن يَكتَسِبَ مِقدارًا ما من خُلُقِ الحِلمِ، ومَتى صَمَّمَ بإرادَتِه أن يَكتَسِبَ ذلك فإنَّه يَستَطيعُه؛ لذلك فهو مسؤولٌ عنِ اكتِسابِ ما يَستَطيعُه منه، فإذا هو أهمَل تَربيةَ نَفسِه، وتَركَها من غَيرِ تَهذيبٍ تَنمو نُموَّ أشواكِ الغابِ، فإنَّه سَيُحاسَبُ على إهمالِه، وسيَجني ثَمَراتِ تَقصيرِه.
وإنَّ أشَدَّ النَّاسِ بُخلًا وأنانيَّةً وحُبًّا للتَّمَلُّكِ يَستَطيعُ بوسائِلِ التَّربيةِ أن يَكتَسِبَ مِقدارًا ما من خُلُقِ حُبِّ العَطاءِ، ومَتى صَمَّمَ بإرادَتِه أن يَكتَسِبَ ذلك فإنَّه يَستَطيعُه؛ لذلك فهو مسؤولٌ عنِ اكتِسابِ القَدرِ الواجِبِ شَرعًا منه، فإذا هو أهمَل تَربيةَ نَفسِه، وتَركَها من غَيرِ تَهذيبٍ، فإنَّه سَيُحاسَبُ على إهمالِه، وسَيَجني ثَمَراتِ تَقصيرِه.
والمَفطورُ على نِسبةٍ كَبيرةٍ منَ الجُبنِ يَستَطيعُ أن يَكتَسِبَ بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ مِقدارًا ما من خُلُقِ الشَّجاعةِ، قد لا يَبلُغُ به مَبلَغَ المَفطورِ على نِسبةٍ عاليةٍ منَ الشَّجاعةِ، ولكِنَّه مِقدارٌ يَكفيه لتَحقيقِ ما يَجِبُ عليه فيه أن يَكونَ شُجاعًا، وضِمنَ الحُدودِ التي هو مسؤولٌ فيها.
وأشَدُّ النَّاسِ أنانيَّةً في تَكوينِه الفِطريِّ يَستَطيعُ أن يَكتَسِبَ بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ مِقدارًا ما منَ الغَيريَّةِ والإيثارِ، قد لا يَبلُغُ فيه مَبلغَ المَفطورِ على مَحَبَّةِ الآخَرينَ، والرَّغبةِ بأن يُؤثِرَهم على نَفسِه، ولكِنَّه مِقدارٌ يَكفيه لتَأديةِ الحُقوقِ الواجِبةِ عليه تِجاهَ الآخَرينَ.
وهكذا نَستَطيعُ أن نَقولَ: إنَّ أيَّةَ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ باستِطاعةِ أيِّ إنسانٍ عاقِلٍ أن يَكتَسِبَ منها بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ المِقدارَ الذي يَكفيه لتَأديةِ واجِبِ السُّلوكِ الأخلاقيِّ.
والنَّاسُ من بَعدِ ذلك يَتَفاوتونَ بمَدى سَبقِهم وارتِقائِهم في سُلَّمِ الفضائِلِ.
وتَفاوُتُ الاستِعداداتِ والطَّبائِعِ لا يُنافي وُجودَ استِعدادٍ عامٍّ صالحٍ لاكتِسابِ مِقدارٍ ما من أيِّ فرعٍ من فُروعِ الاختِصاصِ، سَواءٌ أكان ذلك من قَبيلِ العُلومِ، أو من قَبيلِ الفُنونِ، أو من قَبيلِ المَهاراتِ، أو من قَبيلِ الأخلاقِ.
وفي حُدودِ هذا الاستِعدادِ العامِّ ورَدَتِ التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ الرَّبَّانيَّةُ العامَّةُ، ثمَّ تَرتَقي من بَعدِه مسؤوليَّاتُ الأفرادِ بحَسَبِ ما وهَبَ اللَّهُ كُلًّا منهم مِن فِطَرٍ، وبحَسَبِ ما وَهبَ كُلًّا منهم منِ استِعداداتٍ خاصَّةٍ زائِدةٍ على نِسبةِ الاستِعدادِ العامِّ.
ولو أنَّ بَعضَ النَّاسِ كان مَحرومًا من أدنى حُدودِ الاستِعدادِ العامِّ الذي هو مَناطُ التَّكليفِ، فإنَّ التَّكليفَ لا يَتَوجَّهُ إليه أصلًا، ومن سُلِب منه هذا الاستِعدادُ بسَبَبِ ما ارتَفعَ عنه التَّكليفُ؛ ضَرورةَ اقتِرانِ التَّكليفِ بالاستِطاعةِ، كما أوضَحَت ذلك نُصوصُ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.
ووَفقَ هذا الأساسِ جاءَتِ التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ بالتِزامِ فضائِلِ الأخلاقِ واجتِنابِ رَذائِلِها.
ووَفقَ هذا الأساسِ وضع الإسلامُ الخُطَطَ التَّربَويَّةَ التي تَنفعُ في التَّربيةِ على الأخلاقِ الفاضِلةِ؛ فالاستِعدادُ لذلك مَوجودٌ في الواقِعِ الإنسانيِّ، وإن اختَلفت نِسبةُ هذا الاستِعدادِ من شَخصٍ إلى آخَرَ. وفي الإصلاحِ التَّربَويِّ قد يَقبَلُ بَعضُ النَّاسِ بَعضَ فضائِلِ الأخلاقِ بسُهولةٍ، ولا يَقبَلُ بَعضَها الآخَرَ إلَّا بصُعوبةٍ ومُعالجةٍ طَويلةِ المَدى، وقد تَقِلُّ نِسبةُ استِجابَتِه) .
قال الغَزاليُّ: (لو كانتِ الأخلاقُ لا تَقبَلُ التَّغييرَ لبَطَلتِ الوصايا والمَواعِظُ والتَّأديباتُ... وكَيف يُنكَرُ هذا في حَقِّ الآدَميِّ، وتَغييرُ خَلقِ البَهيمةِ مُمكِنٌ؟! إذ يُنقَلُ البازي منَ الاستيحاشِ إلى الأُنسِ، والكَلبُ من شَرَهِ الأكلِ إلى التَّأدُّبِ والإمساكِ والتَّخليةِ، والفرَسُ منَ الجِماحِ إلى السَّلاسةِ والانقيادِ، وكُلُّ ذلك تَغييرٌ للأخلاقِ) .

( يتبع – وسائل اكتساب الأخلاق )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:23 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

1- تصحيحُ العقيدةِ
إنَّ العَقيدةَ تَنعَكِسُ ولا بُدَّ على أخلاقِ مُعتَقِدِها؛ فالطَّريقُ لتَصحيحِ الأخلاقِ هو تَصحيحُ العَقيدةِ (فالسُّلوكُ ثَمَرةٌ لِما يَحمِلُه الإنسانُ من مُعتَقَدٍ، وما يَدينُ به من دينٍ، والانحِرافُ في السُّلوكِ ناتِجٌ عن خَللٍ في المُعتَقدِ، فالعَقيدةُ هي السُّنَّةُ، وهي الإيمانُ الجازِمُ باللهِ تعالى، وبما يَجِبُ له منَ التَّوحيدِ والإيمانِ بمَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، واليَومِ الآخِرِ، والقدَرِ خَيرِه وشَرِّه، وبما يَتَفرَّعُ عن هذه الأصولِ، ويَلحَقُ بها ممَّا هو من أصولِ الإيمانِ، وأكمَلُ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم أخلاقًا؛ فإذا صَحَّتِ العَقيدةُ حَسُنَتِ الأخلاقُ تَبَعًا لذلك؛ فالعَقيدةُ الصَّحيحةُ: عَقيدةُ السَّلفِ، عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التي تَحمِلُ صاحِبَها على مَكارِمِ الأخلاقِ، وتَردَعُه عن مَساوِئِها.
كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكمَلُ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا)) .
وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكمَلُ المُؤمنينَ أحسَنُهم خُلُقًا، وخيارُكُم خيارُكُم لنِسائِهم)) . وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أكمَلَ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا، وإنَّ حُسنَ الخُلُقِ ليَبلُغُ دَرَجةَ الصَّومِ والصَّلاةِ)) ) .
2- العِباداتُ:
إنَّ (العِباداتِ التي شُرِعَت في الإسلامِ واعتُبِرَت أركانًا في الإيمانِ به ليست طُقوسًا مُبهَمةً في النَّوعِ الذي يَربُطُ الإنسانَ بالغُيوبِ المَجهولةِ، ويُكَلِّفُه بأداءِ أعمالٍ غامِضةٍ، وحَرَكاتٍ لا مَعنى لها، كَلَّا، كَلَّا؛ فالفرائِضُ التي ألزَمَ الإسلامُ بها كُلَّ مُنتَسِبٍ إليه هي تَمارينُ مُتَكَرِّرةٌ لتَعويدِ المَرءِ أن يَحيا بأخلاقٍ صَحيحةٍ، وأن يَظَلَّ مُستَمسِكًا بهذه الأخلاقِ مَهما تَغَيَّرَت أمامَه الحَياةُ.
والقُرآنُ الكَريمُ والسُّنَّةُ المُطَهَّرةُ يَكشِفانِ -بوُضوحٍ- عن هذه الحَقائِقِ.
فالصَّلاةُ الواجِبةُ عِندَما أمرَ اللَّهُ بها أبانَ الحِكمةَ من إقامَتِها، وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] .
فالابتِعادُ عنِ الرَّذائِل والتَّطهيرُ من سوءِ القَولِ وسوءِ العَمَلِ، هو حَقيقةُ الصَّلاةِ...
والزَّكاةُ المَفروضةُ ليست ضَريبةً تُؤخَذُ منَ الجُيوب بل هي -أوَّلًا- غَرسٌ لمَشاعِرِ الحَنانِ والرَّأفةِ، وتَوطيدٌ لعلاقاتِ التَّعارُفِ والأُلفةِ بَين شَتَّى الطَّبَقاتِ.
وقد نَصَّ القُرآنُ على الغايةِ من إخراجِ الزَّكاةِ بقَولِه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] .
فتَنظيفُ النَّفسِ من أدرانِ النَّقصِ والتَّسامي بالمُجتَمَعِ إلى مُستَوًى أنبَلَ هو الحِكمةُ الأولى.
وكَذلك شَرَعَ الإسلامُ الصَّومَ فلم يَنظُرْ إليه على أنَّه حِرمانٌ مُؤَقَّتٌ من بَعضِ الأطعِمةِ والأشرِبةِ، بَل اعتَبَرَه خُطوةً إلى حِرمانِ النَّفسِ دائِمًا من شَهَواتِها المَحظورةِ ونَزَواتها المَنكورةِ.
وإقرارًا لهذا المَعنى قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليس للَّهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طَعامَه وشَرابَه)) .
وقد يَحسَبُ الإنسانُ أنَّ السَّفرَ إلى البقاعِ المُقدَّسةِ الذي كُلِّف به المُستَطيعُ واعتُبِرَ من فرائِضِ الإسلامِ على بَعضِ أتباعهِ؛ يَحسَبُ الإنسانُ هذا السَّفرَ رِحلةً مُجَرَّدةً عنِ المَعاني الخُلُقيَّةِ، ومِثلًا لما قد تَحتَويه الأديانُ أحيانًا من تعبُّداتٍ غَيبيَّةٍ. وهذا خَطَأٌ؛ إذ يَقولُ اللهُ تعالى -في الحَديثِ عن هذه الشَّعيرةِ-: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [الحج: 197]) .
3- الارتباطُ بالقرآنِ الكريمِ:
لا شَكَّ أنَّ القُرآنَ كِتابُ هِدايةٍ ومَنهَجُ حَياةٍ، ولا شَكَّ أنَّ الارتِباطَ به قِراءةً وتَدَبُّرًا وعَمَلًا من أعظَمِ الوسائِلِ لتَحقيقِ الهدايةِ والحَياةِ الكَريمةِ والأخلاقِ الفاضِلةِ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9] .
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (مَّوعِظةٌ: زاجِرٌ عنِ الفواحِشِ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، أي: منَ الشُّبَهِ والشُّكوكِ، وهو إزالةُ ما فيها من رِجسٍ ودَنَسٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، أي: مُحَصِّلٌ لها الهدايةَ والرَّحمةَ منَ اللهِ تعالى، وإنَّما ذلك للمُؤمنينَ به والمُصَدِّقينَ الموقِنينَ) .
وقال جَلَّ ثناؤه: وَنَزَّلْنَا علَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
قال السَّعديُّ: (يَستَضيئونَ به في ظُلُماتِ الكُفرِ والبِدَعِ، والأهواءِ المُرْديةِ، ويَعرِفونَ به الحَقائِقَ، ويهتَدونَ به إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ) .
وقال الشِّنقيطيُّ: (هذه الآيةُ الكَريمةُ أجمَل اللَّهُ جَلَّ وعلا فيها جَميعَ ما في القُرآنِ منَ الهُدى إلى خَيرِ طَريقٍ وأعدَلِها وأصوَبِها، فلو تَتَبَّعْنا تَفصيلَها على وَجهِ الكَمالِ لأتَينا على جَميعِ القُرآنِ العَظيمِ؛ لشُمولِها لجَميعِ ما فيه منَ الهدى إلى خَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ) .
وكم في هذا الكتابِ العظيمِ من توجيهٍ وهدايةٍ، فقال سُبحانَه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ علَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ علَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ [البقرة: 231] .
فالقُرآنُ الكَريمُ اشتَمَل على الأمثالِ والقِصَصِ والعِبَرِ هدايةً لخَيرَي الدُّنيا والآخِرةِ.
فأمَّا الأمثالُ القُرآنيَّةُ فمن أفضَلِ الوسائِلِ لغَرسِ القِيَمِ الإسلاميَّةِ وتَهذيبِ النُّفوسِ والأفكارِ، وتَغييرِ السُّلوكِ والاعتِبارِ، ومن خِلالِها يُعيدُ المَرءُ تَرتيبَ نَفسِه بالتَّفكيرِ والإمعانِ، والعَمَلِ على إصلاحِ النَّفسِ وتَربيَتِها.
وأمَّا القَصَصُ القُرآنيُّ فله أثَرٌ بالغٌ في نَفسِ القارِئِ والسَّامِعِ، تَهفو لها النُّفوسُ، وتَطمَئِنُّ بها القُلوبُ، وتَسمو بها الأرواحُ، فيها منَ السِّحرِ الأخَّاذِ للسَّمعِ والفُؤادِ، وفيها منَ الفوائِدِ والعِبَرِ والدُّروسِ والإرشادِ والدَّلالاتِ لمَن أمعنَ النَّظَرَ، وألقى السَّمعَ وهو شَهيدٌ.
قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ علَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 2-3] ) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:24 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

4- التَّدريبُ العَمَليُّ والرِّياضةُ النَّفسيَّةُ
(إنَّ التَّدريبَ العَمَليَّ والمُمارَسةَ التَّطبيقيَّةَ ولو مَعَ التَّكَلُّفِ في أوَّلِ الأمرِ، وقَسرَ النَّفسِ على غَيرِ ما تَهوى: منَ الأمورِ التي تَكسِبُ النَّفسَ الإنسانيَّةَ العادةَ السُّلوكيَّةَ، طال الزَّمَنُ أو قَصُرَ.
والعادةُ لها تَغَلغُلٌ في النَّفسِ يَجعَلُها أمرًا مُحَبَّبًا، وحينَ تَتَمَكَّنُ في النَّفسِ تَكونُ بمَثابةِ الخُلُقِ الفِطريِّ، وحينَ تَصِلُ العادةُ إلى هذه المَرحَلةِ تَكونُ خُلُقًا مُكتَسَبًا، ولو لم تَكُنْ في الأصلِ الفِطريِّ أمرًا مَوجودًا.
وقد عَرَفنا أنَّ في النَّفسِ الإنسانيَّةِ استِعدادًا فِطريًّا لاكتِسابِ مِقدارٍ ما من كُلِّ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ، وبمِقدارِ ما لدى الإنسانِ من هذا الاستِعدادِ تَكونُ مسؤوليَّتُه، ولو لم يَكُنْ لدى النُّفوسِ الإنسانيَّةِ هذا الاستِعدادُ لكان منَ العَبَثِ اتِّخاذُ أيَّةِ مُحاولةٍ لتَقويمِ أخلاقِ النَّاسِ. والقَواعِدُ التَّربَويَّةُ المُستَمَدَّةُ منَ الواقِعِ التَّجريبيِّ تُثبِتُ وُجودَ هذا الاستِعدادِ، واعتِمادًا عليه يَعمَلُ المُرَبُّونَ على تَهذيبِ أخلاقِ الأجيالِ التي يُشرِفونَ على تَربيَتِها، وقد ورَدَ في الأثَرِ: (العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتَّحَلُّمِ) .
وثَبَتَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللَّهَ، ومَن يَستَغنِ يُغنِه اللهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ)) .
فقد رَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ أنَّ ناسًا منَ الأنصارِ سَألوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاهم، ثمَّ سَألوه فأعطاهم، حتَّى إذا نَفِدَ ما عِندَه قال: ((ما يَكُنْ عِندي من خَيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللَّهُ، ومَن يَستَغنِ يُغنِه اللهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ، وما أعطيَ أحَدٌ عَطاءً خَيرًا وأوسَعَ منَ الصَّبرِ)) .
وضَرَبَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَثَلًا دَلَّ فيه على أنَّ التَّدريبَ العَمَليَّ ولو مَعَ التَّكَلُّفِ يَكسِبُ العادةَ الخُلُقيَّةَ حتَّى يَصيرَ الإنسانُ مِعطاءً غَيرَ بَخيلٍ، ولو لم يَكُنْ كَذلك أوَّلَ الأمرِ.
رَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمَثَلِ رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ من حديدٍ من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما ، فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وفَرَت على جِلدِه، حتَّى تُخفيَ بَنانَه، وتَعفوَ أثَرَه، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لزِقَت كُلُّ حَلقةٍ مَكانَها، فهو يوسِّعُها ولا تَتَّسِعُ)) .
فدَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ المُنفِقَ والبَخيلَ كانا في أوَّلِ الأمرِ مُتَساويَينِ في مِقدارِ الدِّرعَينِ.
أمَّا المُنفِقُ فقد رَبَتَ دِرعُه بالإنفاقِ حتَّى غَطَّت جِسمَه كُلَّه، بخِلافِ البَخيلِ الذي لم يُدَرِّبْ نَفسَه على الإنفاقِ، فإنَّ نَفسَه تَكُزُّ ، واللَّهُ يُضَيِّقُ عليه من وراءِ ذلك، فيَكونُ البُخلُ خُلُقًا مُتَمَكِّنًا من نَفسِه مُسَيطِرًا عليها.
ومن ذلك نَفهَمُ أمرَينِ: فِطريَّةَ الخُلُقِ، وقابليَّتَه للتَّعديلِ بالمُمارَسةِ والتَّدريبِ العَمَليِّ. إنَّ المُنفِقَ كان أوَّلَ الأمرِ كالبَخيل يُشبهانِ لابِسَي دِرعَينِ من حَديدٍ مُتَساويَينِ، ويَبدو أنَّ الدِّرعَ مِثالٌ لِما يَضغَطُ على الصَّدرِ عِندَ إرادةِ النَّفقةِ، فمَن يَتَدَرَّبُ على البَذلِ تَنفتِحُ نَفسُه كما يَتَّسِعُ الدِّرعُ فلا يَكونُ له ضَغطٌ، وأمَّا من يَعتادُ الإمساكَ فيَشتَدُّ ضاغِطُ البُخلِ على صَدرِه، فهو يُحِسُّ بالضِّيقِ الشَّديدِ كُلَّما أرادَ البَذلَ، ومَعَ مُرورِ الزَّمَنِ يَتَصَلَّبُ هذا الضَّاغِطُ.
واعتِمادًا على وُجودِ الاستِعدادِ الفِطريِّ لاكتِسابِ الخُلُقِ ورَدَتِ الأوامِرُ الدِّينيَّةُ بفضائِلِ الأخلاقِ، وورَدَتِ النَّواهي الدِّينيَّةُ عن رَذائِلِ الأخلاقِ.
ولكِن منَ المُلاحَظِ أنَّه قد يَبدَأُ التَّخَلُّقُ بخُلُقٍ ما عَمَلًا شاقًّا على النَّفسِ، إذا لم يَكُنْ في أصلِ طَبيعَتِها الفِطريَّةِ، ولكِنَّه بتَدريبِ النَّفسِ عليه وبالتَّمَرُّسِ والمِرانِ يُصبحُ سَجيَّةً ثابتةً يَندَفِعُ الإنسانُ إلى مُمارَسةِ ظَواهِرِها اندِفاعًا ذاتيًّا دونَ أن يَجِدَ أيَّةَ مَشَقَّةٍ أو مُعارَضةٍ أو عَقَبةٍ من داخِلِ نَفسِه، ولئِن وجَدَ شَيئًا من ذلك فإنَّ دافِعَ الخُلُقِ المُكتَسَبِ يَظَلُّ هو الدَّافِعَ الأغلَبَ، بشَرطِ أن يَكونَ التَّخَلُّقُ قد تحَوَّل فِعلًا إلى خُلُقٍ مُكتَسَبٍ.
وليس التَّدريبُ النَّفسيُّ ببَعيدِ الشَّبَهِ عنِ التَّدريبِ الجَسَديِّ، الذي يُكتَسَبُ به المَهاراتُ العَمَليَّةُ الجَسَديَّةُ) .
قال الغَزاليُّ: (فمَن أرادَ مَثَلًا أن يُحَصِّلَ لنَفسِه خُلُقَ الجودِ فطَريقُه أن يَتَكَلَّفَ تَعاطيَ فِعلِ الجَوادِ، وهو بَذلُ المالِ، فلا يَزالُ يُطالِبُ نَفسَه ويواظِبُ عليه تَكَلُّفًا مُجاهدًا نَفسَه فيه حتَّى يَصيرَ ذلك طَبعًا له، ويَتَيَسَّرَ عليه فيَصيرَ به جَوادًا، وكَذا من أرادَ أن يُحصِّلَ لنَفسِه خُلُقَ التَّواضُعِ وقد غَلبَ عليه الكِبرُ، فطَريقُه أن يواظِبَ على أفعالِ المُتَواضِعينَ مُدَّةً مَديدةً، وهو فيها مُجاهِدٌ نَفسَه ومُتَكَلِّفٌ إلى أن يَصيرَ ذلك خُلُقًا له وطَبعًا فيَتَيَسَّرَ عليه. وجَميعُ الأخلاقِ المَحمودةِ شَرعًا تَحصُلُ بهذا الطَّريقِ، وغايَتُه أن يَصيرَ الفِعلُ الصَّادِرُ منه لذيذًا؛ فالسَّخيُّ هو الذي يَستَلذُّ بَذلَ المالِ الذي يَبذُلُه دونَ الذي يَبذُلُه عن كَراهةٍ، والمُتَواضِعُ هو الذي يَستَلذُّ التَّواضُعَ، ولن ترسَخَ الأخلاقُ الدِّينيَّةُ في النَّفسِ ما لم تَتَعَوَّدِ النَّفسُ جَميعَ العاداتِ الحَسَنةِ، وما لم تَترُكْ جَميعَ الأفعالِ السَّيِّئةِ، وما لم تواظِبْ عليه مواظَبةَ من يَشتاقُ إلى الأفعالِ الجَميلةِ ويَتَنَعَّمُ بها، ويَكرَهُ الأفعالَ القَبيحةَ ويَتَألَّمُ بها) .
5- التَّفكُّرُ في الآثارِ المُتَرَتِّبةِ على حُسنِ الخُلُقِ:
(على المَرءِ أن يَستَذكِرَ دائِمًا ويَحتَسِبَ ثَوابَ حُسنِ الخُلُقِ.
عنِ النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ البرِّ والإثمِ؟ فقال: ((البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإثمُ ما حاكَ في صَدرِك وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أثقَلُ شَيءٍ في الميزانِ حُسنُ الخُلُقِ)) .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أكمَلَ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا، وإنَّ حُسنَ الخُلُقِ ليَبلُغُ دَرَجةَ الصَّومِ والصَّلاةِ)) ) .
6- النَّظَرُ في عواقِبِ سُوءِ الخُلُقِ:
(وذلك بتَأمُّلِ ما يَجلِبُه سوءُ الخُلُقِ منَ الأسَفِ الدَّائِمِ، والهَمِّ المُلازِمِ، والحَسرةِ والنَّدامةِ، والبِغضةِ في قُلوبِ الخَلقِ؛ فذلك يَدعو المَرءَ إلى أن يَقصُرَ عن مَساوِئِ الأخلاقِ، ويَنبَعِثَ إلى مَحاسِنِها.
قال ابنُ القَيِّمِ: (ومن عُقوباتِها أي: المَعاصي وسوءِ الأخلاقِ سُقوطُ الجاهِ والمَنزِلةِ والكَرامةِ عِندَ اللهِ وعِندَ خَلقِه؛ فإنَّ أكرَمَ الخَلقِ عِندَ اللهِ أتقاهم، وأقرَبَهم منه مَنزِلةً أطوَعُهم له، وعلى قدرِ طاعةِ العَبدِ له تَكونُ مَنزِلتُه عِندَه، فإذا عَصاه وخالف أمرَه سَقَطَ من عَينِه، فأسقَطَه من قُلوبِ عِبادِه، وإذا لم يَبقَ له جاهٌ عِندَ الخَلقِ وهانَ عليهم، عامَلوه على حَسَبِ ذلك، فعاشَ بَينَهم أسوأَ عَيشٍ: خامِلَ الذِّكرِ، ساقِطَ القَدرِ، زَريَّ الحالِ، لا حُرمةَ له، فلا فرَحَ له ولا سُرورَ؛ فإنَّ خُمولَ الذِّكْرِ وسُقوطَ القَدرِ والجاهِ يَجلِبُ كُلَّ غَمٍّ وهَمٍّ وحُزنٍ، ولا سُرورَ مَعَه ولا فرَحَ، وأينَ هذا الألمُ من لذَّةِ المَعصيةِ؟! ومِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبدِ: أن يَرفعَ له بَينَ العالَمينَ ذِكرَه، ويُعلِيَ له قَدْرَه) .
... وليس هذا فحَسبُ، بَل تَأمَّلْ ما يَقولُ ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (ومِن عُقوباتِها: أنَّها تَسلُبُ صاحِبَها أسماءَ المَدحِ والشَّرَفِ، وتَكسوه أسماءَ الذَّمِّ والصَّغارِ؛ فتَسلُبُه اسمَ المُؤمنِ، والبَرِّ، والمُحسِنِ، والمُتَّقي، والمُطيعِ، والمُنيبِ، والوليِّ، والوَرِعِ، والصَّالحِ، والعابِدِ، والخائِفِ، والأوَّابِ، والطَّيِّبِ، والمرضيِّ، ونَحوِها.
وتَكسوه اسمَ الفاجِرِ، والعاصي، والمُخالفِ، والمُسيءِ، والمُفسِدِ، والسَّارِقِ، والكاذِبِ، والخائِنِ، والغادِرِ وأمثالِها) .
وتَأمَّلْ عاقِبةَ هذه المَرأةِ التي كانت تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، ولكِنَّها سَيِّئةُ الخُلُقِ في مُعامَلتِها مَعَ جيرانِها.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ تَقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ، وتَفعلُ وتَصدَّقُ، وتُؤذي جيرانَها بلسانِها؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا خَيرَ فيها، هي من أهلِ النَّارِ. قالوا: وفُلانةُ تُصَلِّي المَكتوبةَ وتَصدَّقُ بأثوارٍ ، ولا تُؤذي أحَدًا. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هي من أهلِ الجَنَّةِ)) .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من أحَبِّكُم إليَّ وأقرَبِكُم منِّي مَجلِسًا يَومَ القيامةِ أحاسِنَكُم أخلاقًا، وإنَّ من أبغَضِكُم إليَّ وأبعَدِكُم منِّي يَومَ القيامةِ الثَّرثارون والمُتَشَدِّقونَ والمُتَفَيهِقونَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، قد عَلِمنا الثَّرثارينَ والمُتَشَدِّقينَ، فما المُتَفيهِقونَ؟ قال: المُتَكَبِّرونَ )) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:25 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

7- الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ، والتَّواصي بالحَقِّ
(القُرآنُ الكَريمُ يوصي ويَفرِضُ ضَرورةَ التَّذكيرِ، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، والتَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ، يَقولُ سُبحانَه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110] .
وإنَّ التَّذكيرَ والأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ والتَّواصيَ من أساليبِ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ التي بَدَت خِلالَ أحاديثِ المُرَبِّي الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي طَريقةِ التَّواصي دَعوةُ كُلِّ مُسلمٍ إلى أن يَكونَ مُرَبِّيًا يُعَلِّمُ أخاه المُسلمَ. والتَّذكيرُ بالخَيرِ والحَقِّ والدَّعوةُ إليهما، والتَّنبيهُ إلى الشَّرِّ والضَّرَرِ والنَّهيُ عنهما: هو من صَميمِ الأساليبِ التَّربَويَّةِ الإسلاميَّةِ لتَنميةِ القِيَمِ والأخلاقِ الإسلاميَّةِ في نَفسِ المُسلمِ، وفي الحَديثِ الشَّريفِ أنَّ أبا ذَرٍّ لمَّا بَلغَه مَبعَثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأخيه: اركَبْ إلى هذا الوادي فاسمَعْ من قَولِه، فرَجَعَ فقال: "رَأيته يَأمُرُ بمَكارِمِ الأخلاقِ" .
8- عُلُوُّ الهِمَّةِ:
فعُلوُّ الهمَّةِ يَستَلزِمُ الجِدَّ، والتَّرَفُّعَ عنِ الدَّنايا، ومُحَقَّراتِ الأمورِ.
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ كَريمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ ومَعاليَ الأخلاقِ، ويُبغِضُ سَفسافَها)) .
وسَفسَافهُا: أي: حَقيرُها ورَديئُها. وشَرَفُ النَّفسِ أن يَصونَها عنِ الدَّنايا، والهمَّةُ العاليةُ لا تَزالُ بصاحِبها تَزجُرُه عن مَواقِفِ الذُّلِّ، واكتِسابِ الرَّذائِلِ، وحِرمانِ الفضائِلِ، حتَّى تَرفعَه من أدنى دَرَكاتِ الحَضيضِ إلى أعلى مَقاماتِ المجدِ والسُّؤدُدِ.
قال ابنُ القَيِّمِ في الفوائِدِ: (فمَن علت هَمَّته وخَشَعَت نَفسُه اتَّصَف بكُلِّ خُلُقٍ جَميلٍ، ومَن دَنَت هَمَّتُه وطَغَت نَفسُه اتَّصَف بكُلِّ خُلُقٍ رَذيلٍ) .
وقال أيضًا: (فالنُّفوسُ الشَّريفةُ لا تَرضى منَ الأشياءِ إلَّا بأعلاها وأفضَلِها وأحمَدِها عاقِبةً، والنُّفوسُ الدَّنيئةُ تَحومُ حَولَ الدَّناءاتِ، وتَقَعُ عليها كما يَقَعُ الذُّبابُ على الأقذارِ؛ فالنُّفوسُ العليَّةُ لا تَرضى بالظُّلمِ، ولا بالفواحِشِ، ولا بالسَّرِقةِ ولا بالخيانةِ؛ لأنَّها أكبَرُ من ذلك وأجَلُّ، والنُّفوسُ المَهينةُ الحَقيرةُ الخَسيسةُ بالضِّدِّ من ذلك) .
فإذا حَرَصَ المَرءُ على اكتِسابِ الفضائِلِ، وألزَمَ نَفسَه على التَّخَلُّقِ بالمَحاسِنِ، ولم يَرضَ من مَنقَبةٍ إلَّا بأعلاها، ولم يَقِفْ عِندَ فضيلةٍ إلَّا وطَلب الزِّيادةَ عليها؛ نال مَكارِمَ الأخلاقِ .
9- الصَّبرُ:
قال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ رَحِمَه اللَّهُ: (حُسنُ الخُلُقِ يَقومُ على أربَعةِ أركانٍ، لا يُتَصَوَّرُ قيامُ ساقِه إلَّا عليها: الصَّبرُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعةُ، والعَدلُ) .
وقال: (وهو على ثَلاثةِ أنواعٍ: صَبرٌ باللهِ، وصَبرٌ للَّهِ، وصَبرٌ مَعَ اللهِ.
فالأوَّلُ: صَبرُ الاستِعانة به، ورُؤيَتُه أنَّه هو المُصَبِّرُ، وأنَّ صَبرَ العَبدِ برَبِّه لا بنَفسِه، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127] .
والثَّاني: الصَّبرُ للَّهِ، وهو أن يَكونَ الباعِثُ له على الصَّبرِ مَحَبَّةَ اللهِ، وإرادةَ وجهِه، والتَّقَرُّبَ إليه لا لإظهارِ قوَّةِ النَّفسِ، والاستِحمادِ إلى الخَلقِ.
الثَّالثُ: الصَّبرُ مَعَ اللهِ، وهو دَوَرانُ العَبدِ مَعَ مُرادِ اللهِ الدِّينيِّ منه، ومَعَ أحكامِه الدِّينيَّةِ، صابرًا نَفسَه مَعَها، سائِرًا بسَيرِها.. أينَ ما تَوجَّهَت رَكائِبُها) .
وقال الماوَرْديُّ: (وليس لمَن قَلَّ صَبرُه على طاعةِ اللهِ تعالى حَظٌّ من بِرٍّ، ولا نَصيبٌ من صَلاحٍ، ومَن لم يَرَ لنَفسِه صَبرًا يَكسِبُها ثَوابًا، ويَدفعُ عنها عِقابًا، كان مَعَ سوءِ الاختيارِ بَعيدًا منَ الرَّشادِ، حَقيقًا بالضَّلالِ) .
(وعلى العاقِلِ احتِسابُ الأجرِ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهذا الأمرُ من أعظَمِ ما يُعينُ على اكتِسابِ الأخلاقِ الفاضِلةِ، وتَحَمُّلِ أذى النَّاسِ؛ فإذا أيقَنَ المُسلِمُ أنَّ اللهَ سَيَجزيه على حُسنِ خُلُقِه ومُجاهَدتِه سيهونُ عليه ما يَلقاه في ذلك السَّبيلِ؛ قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96] ، وقال سُبحانَه: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12] ) .
10- الموعِظةُ والنُّصحُ:
(التَّربيةُ بالوَعظِ لها دَورُها الهامُّ في غَرسِ القِيَمِ الإسلاميَّةِ بمَيادينِها المُختَلفةِ، وهي قد تَكونُ في صورةٍ مُباشِرةٍ على شَكلِ نَصائِحَ، فالإنسانُ "قد يُصغي ويَرغَبُ في سَماعِ النُّصحِ من مُحِبِّيه وناصِحيه، فالنُّصحُ والوَعظُ يُصبحُ في هذه الحالةِ ذا تَأثيرٍ بَليغٍ في نَفسِ المُخاطَبِ" .
والقُرآنُ الكَريمُ زاخِرٌ بالمَواعِظِيَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ [النساء: 58] .
وفي الحَديثِ الشَّريفِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المَرءُ على دينِ خَليلِه ؛ فليَنظُرْ أحَدُكُم من يُخالِلُ)) .
والمَوعِظةُ المُؤَثِّرةُ تَفتَحُ طَريقَها إلى النَّفسِ مُباشَرةً؛ ممَّا يُؤَثِّرُ في تَغييرِ سُلوكِ الفردِ، وإكسابِه الصِّفاتِ المَرغوبَ فيها، وكَمالَ الخُلُقِ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ ومَعَه بلالٌ، فظَنَّ أنَّه لم يُسمِعِ النِّساءَ، فوعظَهنَّ وأمرَهنَّ بالصَّدَقةِ، فجَعلتِ المَرأةُ تُلقِي القُرطَ والخاتمَ، وبلالٌ يأخُذُ في طَرَفِ ثَوبِه)) .
وفي المَواعِظِ القُرآنيَّةِ نلحَظُ أسلوبًا تَربَويًّا رائِعًا: يَبغي كَمالَ الإنسانِ، بحَيثُ يَجِبُ أن يَتَمَثَّلَها المُعلِّمُ والمُتَعلِّمُ؛ إذ هي صادِرةٌ عن حِكمةٍ، وليس عن هَوًى، والمِثالُ على ذلك نَأخُذُ خُلاصةً من عِظةِ لُقمانَ لابنِه، التي تَهدُفُ إلى:
أ- أن يَكونَ اللَّهُ هو مَصدَرَ السُّلوكِ، بمَعنى إيمانِ الإنسانِ به، واتِّباعِ شَريعَتِه، وذلك هو مُحَدِّدُ سُلوكِ الإنسانِ، وهو الهَدَفُ والغايةُ لسُلوكِه، بمَعنى أن يَكونَ مُخلِصًا للَّهِ، وذلك عن طَريقِ عَدَمِ الإشراكِ باللهِ، والشُّكرِ له.
ب- أن يَكونَ السُّلوكُ كما حَدَّدَته المَوعِظةُ في قَصدٍ واعتِدالٍ في كُلِّ شَيءٍ، فلا مُغالاةَ ولا تَفريطَ، إنَّما تَوسُّطٌ واعتِدالٌ، وهذا يَعكِسُ هَدَفَ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ السُّلوكيَّةِ: أنَّها تُنشِئُ إنسانًا مُعتَدِلًا في سُلوكِه وفي عَقيدَتِه.
وهكذا يَبدو دَورُ الوعظِ كَوسيلةٍ في التَّربيةِ الإسلاميَّةِ، تَصلُحُ في مَيدانِ التَّربيةِ الخُلُقيَّةِ، كما هي في مَيدانِ التَّربيةِ الاجتِماعيَّةِ والعَقليَّةِ وباقي المَيادينِ الإسلاميَّةِ) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:26 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

11- التَّواصي بحُسنِ الخُلُقِ:
(وذلك ببَثِّ فضائِلِ حُسنِ الخُلُقِ، وبالتَّحذيرِ من مَساوِئِ الأخلاقِ، وبنُصحِ المُبتَلَينَ بسوءِ الخُلُقِ، وبتَشجيعِ حَسَني الأخلاقِ، فحُسنُ الخُلُقِ منَ الحَقِّ، واللهُ سُبحانَه يَقولُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ...
والرِّبحُ الحَقيقيُّ للمُسلمِ أن يَكونَ له ناصِحونَ يَنصَحونَه، ويوصونَه بالخَيرِ والاستِقامةِ، فإذا حَسُنَت أخلاقُ المُسلمِ، كَثُرَ مُصافوه، وأحَبَّه النَّاسُ.
قال المُناويُّ: (أنتَ مِرآةُ أخيك يُبصِرُ حالَه فيك، وهو مِرآةٌ لك تُبصِرُ حالَك فيه) .
قال الخَوارِزميُّ:
لا تَصحَبِ الكَسلانَ في حالاتِه
كَم صالحٍ بفسادِ آخَرَ يَفسُدُ
عَدوى البَليدِ إلى الجَليدِ سَريعةٌ
كالجَمرِ يوضَعُ في الرَّمادِ فيُخمَدُ) .
12- أن يتَّخِذَ النَّاسَ مرآةً لنَفسِه:
إنَّ العاقِلَ يَنبَغي أن يَنظُرَ لغَيرِه ويَجعَلَهم مِرآةً لنَفسِه، فكُلُّ ما كَرِهَه ونَفرَ عنه من قَولٍ أو فِعلٍ أو خُلُقٍ، فليَتَجَنَّبْه، وما أحَبَّه من ذلك واستَحسَنَه فليَفعَلْه.
قال ابنُ حَزمٍ: (لكُلِّ شَيءٍ فائِدةٌ، ولقدِ انتَفعتُ بمَحْكِ أهلِ الجَهلِ مَنفعةً عَظيمةً، وهي أنَّه تَوقَّدَ طَبعي، واحتَدَمَ خاطِري، وحَميَ فِكري، وتَهَيَّج نَشاطي، فكان ذلك سَبَبًا إلى تَواليفَ عَظيمةِ المَنفعةِ، ولولا استِثارَتُهم ساكِني، واقتِداحُهم كامِني، ما انبَعَثتُ لتلك التَّواليفِ) .
(قال الشَّاعِرُ:
إنَّ السَّعيدَ له من غَيرِه عِظةٌ
وفي التَّجارِبِ تَحكيمٌ ومُعتَبَرُ
وقال الطَّاهِرُ بنُ الحُسَينِ:
إذا أعجَبَتك خِصالُ امرِئٍ
فكُنْه يَكُنْ منك ما يُعجِبُك
فليس على المَجدِ والمُكرُماتِ
إذا جِئتَها حاجِبٌ يَحجُبُك) .
13- القُدوةُ الحَسَنةُ:
(تَعني القُدوةُ هنا أن يَكونَ المُرَبِّي أوِ الدَّاعي مِثالًا يُحتَذى به في أفعالِه وتَصَرُّفاتِه، وقد أشادَ القُرآنُ الكَريمُ بهذه الوسيلةِ، فقال عَزَّ مِن قائِلٍ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة: 4] ، وقد كان المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -ولا يَزالُ- قُدوةً للمُسلمينَ جَميعًا، والقُدوةُ الحَسَنةُ التي يُحَقِّقُها الدَّاعي بسيرَتِه الطَّيِّبةِ هي في الحَقيقةِ دَعوةٌ عَمَليَّةٌ للإسلامِ بكُلِّ ما يَحمِلُه من مَبادِئَ وقيَمٍ تَدعو إلى الخَيرِ، وتَحُثُّ على الفضيلةِ.
ولأثَرِ القُدوةِ في عَمَليَّةِ التَّربيةِ -وخاصَّةً في مَجالِ الاتِّجاهاتِ والقِيَمِ- كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو قُدوةَ المُسلمينَ طِبقًا لما نَصَّ عليه القُرآنُ الكَريمُ، وقدِ استَطاعَ بفضلِ تلك القُدوةِ أن يُحمِّلَ مُعاصِريه قيَمَ الإسلامِ وتَعاليمَه وأحكامَه، لا بالأقوالِ فقَط وإنَّما بالسُّلوكِ الواقِعيِّ الحَيِّ، وقد حَرَصوا على تَتَبُّعِ صِفاتِه وحَرَكاتِه، ورَصدِها والعَمَلِ بها، وما ذلك إلَّا حِرصًا منهم على تَمَثُّلِ أفعالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لقد كان المَثَلَ الأعلى لهم.
وقد تَمَثَّلَت في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صِفاتٌ جَليلةٌ جَعلت منه قُدوةً بالفِعلِ) .
(والقُدوةُ الحَسَنةُ هي المِثالُ الواقِعيُّ للسُّلوكِ الخُلُقيِّ الأمثَلِ، وهذا المِثالُ الواقِعيُّ قد يَكونُ مِثالًا حِسِّيًّا مُشاهَدًا مَلموسًا يُقتَدى به، وقد يَكونُ مِثالًا حاضِرًا في الذِّهنِ بأخبارِه وسِيَرِه، وصورةً مُرتَسِمةً في النَّفسِ بما أُثِرَ عنه من سِيَرٍ وقِصَصٍ، وأنباءٍ من أقوالٍ أو أفعالٍ.
والقُدوةُ الحَسَنةُ تَكونُ للأفرادِ على صِفةِ أفرادٍ مِثاليِّينَ مُمتازينَ، وتَكونُ للجَماعاتِ على صِفةِ جَماعاتٍ مِثاليَّةٍ مُمتازةٍ... ووجَّهَ القُرآنُ الكَريمُ بصَراحةٍ تامَّةٍ إلى القُدوةِ الحَسَنةِ، فقال اللهُ تعالى في سورةِ (الأحزابِ):
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] .
ففي هذا النَّصِّ إرشادٌ عَظيمٌ منَ اللهِ تَبارَكَ وتعالى للمُؤمنينَ أن يَجعلوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُدوةً حَسَنةً لهم، يَقتَدونَ به في أعمالِه وأقوالِه وأخلاقِه، وكُلِّ جُزئيَّاتِ سُلوكِه في الحَياةِ؛ فهو خَيرُ قُدوةٍ يَقتَدي بها الأفرادُ العاديُّونَ، والأفرادُ الطَّامِحونَ لبُلوغِ الكَمالِ الإنسانيِّ في السُّلوكِ.
وجَعل اللهُ الذينَ آمَنوا مَعَه وصَدَّقوا، وأخلصوا واستَقاموا أمثِلةً رائِعةً يُقتَدى بها في مُعظَمِ الفضائِلِ الفرديَّةِ والاجتِماعيَّةِ.
ولئِنِ انتَقَل الرَّسولُ صَلواتُ اللهِ عليه إلى جِوارِ رَبِّه، فإنَّ سيرَتَه التي تَحتَوي على جُزئيَّاتِ سُلوكِه ماثِلةٌ لنا.
وفيما بَلغَنا من تَراجِمِ أصحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم ما يَكفي لتَجسيدِ القُدوةِ الحَسَنةِ للمُجتَمَعِ المُسلمِ.
ثمَّ إنَّ كُلَّ عَصرٍ منَ العُصورِ من بَعدِهم لا يَخلو من وُجودِ طائِفةٍ من أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَصلُحُ لأن تَكونَ قُدوةً حَسَنةً، قَلَّت هذه الطَّائِفةُ أو كَثُرَت؛ فقد بَشَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك في قَولِه: ((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهرينَ على من ناوأهم، حتَّى يُقاتِلَ آخِرهمُ المَسيحَ الدَّجَّالَ)) .
ورَوى مُسلِمٌ عن جابرٍ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهرينَ إلى يَومِ القيامةِ)) .
ورَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن مُعاويةَ قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يَزالُ من أمَّتي أمَّةٌ قائِمةٌ بأمرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهم من خَذَلهم ولا من خالفَهم حتَّى يَأتيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلك)) .
فلا يَخلو عَصرٌ من عُصورِ الأمَّةِ المُحَمَّديَّةِ من طائِفةٍ صالحةٍ تَصلُحُ لأن تَكونَ في عَصرِها قُدوةً حَسَنةً للأفرادِ) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:27 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

14- مُصاحَبةُ الأخيارِ، وأهلِ الأخلاقِ الفاضِلةِ :
فالمَرءُ مُولَعٌ بمُحاكاةِ مَن حَوله، شَديدُ التَّأثُّرِ بمَن يُصاحِبُه، ومُجالسَتُهم تَكسِبُ المَرءَ الصَّلاحَ والتَّقوى، والاستِنكافُ عنهم تَنكُّبٌ عنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ.
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] .
وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ علَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] .
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ كمَثَلِ صاحِبِ المِسكِ وكِيرِ الحَدَّادِ، لا يَعدَمُك من صاحِبِ المِسكِ: إمَّا تَشتَريه، أو تَجِدُ ريحَه، وكيرُ الحَدَّادِ يُحرِقُ بَدَنَك أو ثَوبَك، أو تَجِدُ منه ريحًا خَبيثةً)) .
قال أبو حاتِمٍ: (العاقِلُ يَلزَمُ صُحبةَ الأخيارِ، ويُفارِقُ صُحبةَ الأشرارِ؛ لأنَّ مَودَّةَ الأخيارِ سَريعٌ اتِّصالُها، بَطيءٌ انقِطاعُها، ومَودَّةَ الأشرارِ سَريعٌ انقِطاعُها، بَطيءٌ اتِّصالُها، وصُحبةُ الأشرارِ سوءُ الظَّنِّ بالأخيارِ، ومَن خادَنَ الأشرارَ لم يَسلَمْ منَ الدُّخولِ في جَملتِهم؛ فالواجِبُ على العاقِلِ أن يَجتَنِبَ أهلَ الرَّيبِ لئَلَّا يَكونَ مُريبًا، فكَما أنَّ صُحبةَ الأخيارِ تورِثُ الخَيرَ، كَذلك صُحبةُ الأشرارِ تورِثُ الشَّرَّ) .
قال الشَّاعِرُ:
عليك بإخوانِ الثِّقاتِ فإنَّهم
قَليلٌ فصِلْهم دونَ من كُنتَ تَصحَبُ
ونَفسَك أكرِمْها وصُنْها فإنَّها
مَتى ما تُجالِس سِفلةَ النَّاسِ تَغضَبُ
فالصَّداقةُ المَتينةُ والصُّحبةُ الصَّالحةُ لا تَحُلُّ في نَفسٍ إلَّا هَذَّبَت أخلاقَها الذَّميمةَ. فإذا كان الأمرُ كذلك فما أحرى بذلك اللُّبِّ أن يَبحَثَ عن إخوانٍ ثِقاتٍ؛ حتَّى يُعينوه على كُلِّ خَيرٍ، ويَقصُروه عن كُلِّ شَرٍّ.
قال ابنُ الجَوزيِّ: (ما رَأيتُ أكثَرَ أذًى للمُؤمنِ من مُخالطةِ من لا يَصلُحُ؛ فإنَّ الطَّبعَ يَسرِقُ؛ فإنْ لم يَتَشَبَّهْ بهم ولم يَسرِقْ منهم فتَرَ عن عَمَلِه) .
وقال أبو جَعفرٍ أحمَدُ بنُ ليونَ التَّجيبيُّ:
أنتَ في النَّاسِ تُقاسُ
بالذي اختَرتَ خَليلَا
فاصحَبِ الأخيارَ تَعلو
وتَنَلْ ذِكرًا جَميلَا
وقيل: إنَّما سُمِّيَ الصَّديقُ صَديقًا لصِدقِه، والعَدوُّ عَدوًّا لعَدْوِه عليك .
15- الغَمسُ في البيئاتِ الصَّالحةِ:
(ومن وسائِلِ اكتِسابِ الأخلاقِ الفاضِلةِ الغَمسُ في البيئاتِ الصَّالحةِ؛ وذلك لأنَّ من طَبيعةِ الإنسانِ أن يَكتَسِبَ منَ البيئةِ التي يَنغَمِسُ فيها ويَتَعايَشُ مَعَها ما لدَيها من أخلاقٍ وعاداتٍ وتَقاليدَ وأنواعِ سُلوكٍ، عن طَريقِ السِّرايةِ والمُحاكاةِ والتَّقليدِ، وبذلك تَتِمُّ العَدوى النَّافِعةُ أوِ الضَّارَّةُ، وفي الحِكَمِ السَّائِرةِ: أنَّ الطَّبعَ للطَّبعِ يَسرِقُ...
ويُمكِنُ تَلخيصُ التَّأثيرِ الجَماعيِّ على الفردِ بالعناصِرِ التَّاليةِ:
- السِّرايةُ التي تَفعلُ فِعلَها العَميقَ في كيانِ الإنسانِ، وهي من خَصائِصِ الاجتِماعِ، وكُلَّما كَبُرَ المُجتَمَعُ كان تَأثيرُه على الفردِ الذي يَنخَرِطُ فيه أكثَرَ.
- القوَّةُ المَعنَويَّةُ الجَماعيَّةُ التي يَخشى الأفرادُ عُقوباتِها المادِّيَّةَ والمَعنَويَّةَ، ويَرجونَ مَثوباتِها المادِّيَّةَ والمَعنَويَّةَ.
- جاذِبيَّةُ الجَماعةِ لعُنصُرِ التَّقليدِ والمُحاكاةِ الذي يوجَدُ عِندَ الأفرادِ.
- عُنصُرُ المُنافَسةِ، وهو من خَصائِصِ الجَماعةِ.
- رَغبةُ الأفرادِ بتَقديرِ الآخَرينَ ومَحَبَّتِهم له، وهذا الدَّافِعُ لا يَتَحَرَّكُ إلَّا في وسَطِ الجَماعةِ، فاستِغلالُه من خَصائِصِ الجَماعةِ.
هذا وقوَّةُ الجَماعةِ الخَيِّرةِ يوجَدُ نَظيرُها في الجَماعةِ الشِّرِّيرةِ الخَبيثةِ، يُضافُ إليها مَيلُ النَّفسِ بفِطرَتِها إلى الأهواءِ والشَّهَواتِ التي تُرافِقُ رَذائِلَ الأخلاقِ وقَبائِحَ الأفعالِ، لا سيَّما إذا كان مُخالِطُ الأشرارِ غِرًّا صَغيرًا غَيرَ مُضَرَّسٍ في الحَياةِ، وسُلطانُ الغَرائِزِ والأهواءِ فيه أقوى من سُلطانِ العَقلِ والوِجدانِ والضَّميرِ) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:28 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

16- الاختِلافُ إلى أهلِ الحِلمِ والفَضلِ وذوي المروءاتِ:
[/color](فإذا اختَلف المَرءُ إلى هؤلاء، وأكثَرَ من لقائِهم وزيارَتِهم تَخَلَّقَ بأخلاقِهم، وقَبَس من سَمتِهم ونورِهم.
أ- يُروى أنَّ الأحنَفَ بنَ قَيسٍ قال: (كُنَّا نَختَلفُ إلى قَيسِ بنِ عاصِمٍ نَتَعلَّمُ منه الحِلمَ كما نَتَعلَّمُ الفِقهَ).
ب- كان أصحابُ عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَرحَلونَ إليه، فيَنظُرونَ إلى سَمتِه وهَدْيه ودَلِّه، قال: فيَتَشَبَّهونَ به .
ج- قال مالِكٌ: قال ابنُ سِيرينَ: كانوا يَتَعلَّمونَ الهَديَ كما يَتَعلَّمونَ العِلمَ. قال: وبَعَثَ ابنُ سِيرينَ رَجُلًا فنَظَرَ كَيف هَديُ القاسِمِ -هو ابنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ- وحالُه .
د- قال القاضي أبو يَعلى: رَوى أبو الحُسَينِ بنُ المُنادي بسَنَدِه إلى الحُسَينِ بنِ إسماعيلَ قال: سَمِعتُ أبي يَقولُ: كُنَّا نَجتَمِعُ في مَجلسِ الإمامِ أحمَدَ زُهاءً على خَمسةِ آلافٍ أو يَزيدونَ، أقَلُّ مِن خَمسمِائةٍ يَكتُبونَ، والباقي يَتَعلَّمونَ منه حُسنَ الأدَبِ، وحُسنَ السَّمتِ .
هـ- قال إبراهيمُ بنُ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ لابنِه: يا بُنَيَّ، إيتِ الفُقَهاءَ والعُلماءَ، وتَعلَّمْ منهم، وخُذْ من أدَبِهم وأخلاقِهم وهَدْيِهم؛ فإنَّ ذاكَ أحَبُّ إليَّ لك من كَثيرٍ منَ الحَديثِ .
و- وقال الأعمَشُ: كانوا يَأتونَ همَّامَ بنَ الحارِث يَتَعلَّمونَ من هَدْيِه وسَمتِه) .
17- الضَّغطُ الاجتِماعيُّ من قِبَلِ المجتَمَعِ الإسلاميِّ:
(ضِمنَ مَجموعةِ الوسائِلِ التي اعتَمَدَ عليها الإسلامُ في تَقويمِ الأفرادِ وإصلاحِهم، وإلزامِهم بكَمالِ السُّلوكِ وفضائِلِ الأخلاقِ، اعتَمَدَ على المُجتَمَعِ الإسلاميِّ السَّويِّ؛ وذلك لِما للمُجتَمَعِ من سُلطةٍ مَعنَويَّةٍ فعَّالةٍ ومُؤَثِّرةٍ على نُفوسِ الأفرادِ.
وتَرجِعُ هذه السُّلطةُ المَعنَويَّةُ إلى أنَّ الفردَ جُزءٌ منَ المُجتَمَعِ الذي يَعيشُ فيه، وله من مُجتَمَعِه مَصالحُ كَثيرةٌ مادِّيَّةٌ ونَفسيَّةٌ.
وبما أنَّ الإنسانَ كائِنٌ اجتِماعيٌّ، ولا يَستَطيعُ أن يَعيشَ عَيشًا سَويًّا سَليمًا إلَّا ضِمنَ مُجتَمَعٍ منَ النَّاسِ، كان ارتِباطُه بالمُجتَمَعِ نابعًا من حاجتِه إليه، والحاجةُ لشَيءٍ ذي إرادةٍ تَجعلُ لهذا الشَّيءِ سُلطانًا على من كان بحاجةٍ إليه؛ إذ هو لا يُحَقِّقُ هذه الحاجةَ من نَفسِه ما لم يَكُنْ راضيًا، عِندَئِذٍ يَسعى ذو الحاجةِ إلى تَحقيقِ رِضاه حتَّى يَنالَ منه حاجَتَه.
ومنَ الحاجاتِ النَّفسيَّةِ المُرتَبطةِ بالمُجتَمَعِ حاجةُ الإنسانِ إلى التَّقديرِ؛ ولذلك يَكدَحُ كَثيرٌ منَ الكادِحينَ؛ ليَظفروا بتَقديرِ النَّاسِ لهم وثَنائِهم عليهم، ويَمنَعُ كَثيرٌ منَ النَّاسِ أنفُسَهم من شَهَواتٍ مُلحَّةٍ، وأهواءٍ يَتَطَلَّعونَ إليها؛ مَخافةَ أن يَنظُرَ النَّاسُ إليهم بازدِراءٍ واحتِقارٍ، أو مَخافةَ أن يُعاقِبوهم بالهَجرِ والقَطيعةِ، أو بالتَّلويمِ والتَّثريبِ والمَذَمَّةِ، وما ذلك إلَّا من شُعورِ الفردِ بحاجَتِه إلى التَّقديرِ، وبحاجَتِه إلى المُحافظةِ على كَرامةِ نَفسِه بَينَ النَّاسِ، وهذا هو الذي يَجعلُ للمُجتَمَعِ سُلطانًا على أفرادِه.
يُضافُ إلى ذلك أسبابُ التَّأثيرِ الجَماعيِّ على الفردِ،... وإذِ اتَّخَذَ الإسلامُ -ضِمنَ وسائِلِه لإلزامِ الأفرادِ بالمنهَجِ الأخلاقيِّ الذي رَسَمَه للنَّاسِ- وسيلةَ الضَّغطِ الاجتِماعيِّ الذي يُمارِسُه المُجتَمَعُ الإسلاميُّ؛ فقد عَمِل بالتَّربيةِ الفرديَّةِ النَّبَويَّةِ وبالتَّربيةِ الجَماعيَّةِ على تَكوينِ المُجتَمَعِ الإسلاميِّ الأوَّلِ، ثمَّ جَعَل من هذا المُجتَمَعِ رَقيبًا على أفرادِه، وحارِسًا ساهرًا، ومُحاسِبًا عادِلًا، ومُعاقِبًا بأنواعٍ شَتَّى من أنواعِ العِقابِ المَعنَويِّ، ومُؤَنِّبًا وناصِحًا، وآمِرًا بالمَعروفِ وناهيًا عنِ المُنكَرِ.
فمن شَأنِ هذا المُجتَمَعِ أن يُمليَ على من يَنشَأُ فيه أو يَنخَرِطُ فيه فضائِلَ الأخلاقِ، ومَحاسِنَ السُّلوكِ، بصِفةٍ عَمَليَّةٍ فعَّالةٍ...) .

( يتبع )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:29 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ

18- إدامةُ النَّظَرِ في السِّيرةِ النَّبَويَّةِ:
(فالسِّيرةُ النَّبَويَّةُ تَضَعُ بَينَ يَدَي قارِئِها أعظَمَ صورةٍ عَرَفَتها الإنسانيَّةُ، وأكمَلَ هَديٍ وخُلُقٍ في حَياةِ البَشَريَّةِ.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] .
قال ابنُ حَزمٍ: (مَن أرادَ خَيرَ الآخِرةِ وحِكمةَ الدُّنيا، وعَدلَ السِّيرةِ، والاحتِواءَ على مَحاسِنِ الأخلاقِ كُلِّها، واستِحقاقَ الفضائِلِ بأسرِها؛ فليَقتَدِ بمُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليستَعمِلْ أخلاقَه وسِيرَه ما أمكَنَه، أعانَنا اللَّهُ على الائتِساءِ به بمَنِّه. آمينَ) .
وبدِراسةِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ يَتِمُّ حُسنُ الاقتِداءِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...
ومَعرِفةُ شَمائِلِه... تُنَبِّهُ الإنسانَ على مَكارِمِ الأخلاقِ، وتُذَكِّرُه بفضلِها، وتُعينُه على اكتِسابِها، والشَّمائِلُ: جَمعُ شِمالٍ، وهي السَّجايا والأخلاقُ التي كان عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
19- النَّظَرُ في سِيَرِ الصَّحابةِ الكِرامِ، وأهلِ الفَضلِ والحِلمِ:
(السَّلَفُ الصَّالحُ أعلامُ الهدى، ومَصابيحُ الدُّجى، وهمُ الذينَ ورِثوا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَدْيَه وسَمتَه وخُلُقَه؛ فالنَّظَرُ في سِيَرِهم والاطِّلاعُ على أحوالِهم يَبعَثُ على التَّأسِّي بهم، والاقتِداءِ بهَديِهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ علَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] .
إنَّ الإحاطةَ بتَراجِمِ أعيانِ الأمَّةِ مَطلوبةٌ، ولذَوي المَعارِفِ مَحبوبةٌ؛ ففي مُدارَسةِ أخبارِهم شِفاءٌ للعليلِ، وفي مُطالعةِ أيَّامِهم إرواءٌ للغَليلِ.
فأيُّ خَصلةِ خَيرٍ لم يَسبِقوا إليها؟! وأيُّ خُطَّةِ رُشدٍ لم يَستَولوا عليها؟! تاللهِ لقد ورَدوا رَأسَ الماءِ من عَينِ الحَياةِ عَذبًا صافيًا زُلالًا، وأيَّدوا قَواعِدَ الإسلامِ، فلم يَدَعوا لأحَدٍ بَعدَهم مَقالًا .
واعلَمْ تَحقيقًا أنَّ أعلمَ أهلِ الزَّمانِ وأقرَبَهم إلى الحَقِّ أشَبَهُهم بالصَّحابةِ وأعرَفُهم بطَريقِ الصَّحابةِ؛ فمنهم أُخِذ الدِّينُ؛ ولذلك قال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: "خَيرُنا أتبَعُنا لهذا الدِّينِ" .
قال النَّاظِمُ:
فتَشَبَّهوا إن لم تَكونوا مِثْلَهم
إنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
وكَذلك قِراءةُ سِيَرِ التَّابعينَ ومَن جاءَ بَعدَهم في تَراجِمِهم ممَّا يُحَرِّكُ العَزيمةَ على اكتِسابِ المَعالي ومَكارِمِ الأخلاقِ؛ ذلك أنَّ حَياةَ أولئِكَ تَتَمَثَّلُ أمامَ القارِئِ، وتوحي إليه بالاقتِداءِ بهم، والسَّيرِ على منوالِهم.
وجَديرٌ بمَن لازَمَ العُلماءَ بالفِعلِ أوِ العِلمِ أن يَتَّصِفَ بما اتَّصَفوا به، وهكذا مَن أمعنَ النَّظَرَ في سيرَتِهم أفادَ منهم، وهكذا كان شَأنُ السَّلفِ الصَّالحِ؛ فأوَّلُ ذلك مُلازَمةُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخذُهم بأقوالِه وأفعالِه، واعتِمادُهم على ما يَرِدُ منه كائِنًا ما كان، وعلى أيِّ وَجهٍ صَدَر... وإنَّما ذلك بكَثرةِ المُلازَمةِ، وشِدَّةِ المُثابَرةِ... وصارَ مِثلُ ذلك أصلًا لمَن بَعدَهم؛ فالتَزَمَ التَّابعونَ في الصَّحابةِ سيرَتَهم مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ففَقِهوا، ونالوا ذِروةَ الكَمالِ في العُلومِ الشَّرعيَّةِ، والأخلاقِ العليَّةِ) .
20- سُلطانُ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ:
(للسُّلطةِ المادِّيَّةِ التي تُمارِسُها الدَّولةُ الإسلاميَّةُ أثَرٌ فعَّالٌ في إلزامِ الأفرادِ والجَماعاتِ بالمنهجِ الأخلاقيِّ الذي رَسَمَه الإسلامُ للنَّاسِ، وفي تَربيةِ نُفوسِهم وقُلوبِهم على الفضائِلِ الأخلاقيَّةِ.
ولذلك كان من مُهمَّاتِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ ضَبطُ انتِظامِ الأفرادِ والجَماعاتِ في نِظامِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، بما تُوليه من رَقابةٍ يَقِظةٍ، وحِراسةٍ ساهِرةٍ، ومُحاسَبةٍ للمُنحَرِفينَ، وتَشجيعٍ للسَّابقينَ، وتَوجيهٍ وتَربيةٍ، وبناءٍ وصيانةٍ.
ولذلك كان من مُهمَّاتِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ وضعُ الأنظِمةِ المُختَلِفةِ المُرَغِّبةِ بالتِزامِ المنهجِ الأخلاقيِّ الرَّبَّانيِّ، والرَّادِعةِ عن مُخالفتِه، واتِّخاذِ مُختَلِفِ الوسائِلِ النَّافِعةِ التَّوجيهيَّةِ والتَّربَويَّةِ لحِمايةِ الأخلاقِ وصيانَتِها.
ورُبَّما كان وازِعُ السُّلطةِ الإداريَّةِ هذا أقوى وازِعٍ لإلزامِ الجَماهيرِ بسُلوكِ السَّبيلِ الأقومِ، وقد جاءَ في الأثَرِ: "إنَّ اللهَ ليَزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يَزَعُ بالقُرآنِ ") .

( يتبع - موقِفُ أعداءِ المُسلِمين من الأخلاقِ الإسلاميَّةِ)

البراء الحريري
04-30-2025, 04:30 PM
تابع – مقدمات في السلوك والأخلاق

موقِفُ أعداءِ المُسلِمين من الأخلاقِ الإسلاميَّةِ
(أدرَكَ أعداءُ المُسلمينَ الحَقائِقَ عن مَكارِمِ الأخلاقِ، فعَمِلوا على إفسادِ أخلاقِ المُسلمينَ بكُلِّ ما أوتوا من مَكرٍ ودَهاءٍ، وبكُلِّ ما أوتوا من وسائِلَ مادِّيَّةٍ وشَياطينِ إغواءٍ؛ ليُبَعثِروا قواهمُ المُتَماسِكةَ بالأخلاقِ الإسلاميَّةِ العَظيمةِ، وليُفتِّتوا وَحدَتهمُ التي كانت مِثلَ الجَبَلِ الرَّاسِخِ الصُّلبِ قوَّةً، ومِثلَ الجَنَّةِ الوارِفةِ المُثمِرةِ خُضرةً وبهاءً وثَمَرًا وماءً.
إنَّ أعداءَ المُسلمينَ قد عَرَفوا أنَّ الأخلاقَ الإسلاميَّةَ في أفرادِ المُسلمينَ تُمَثِّلُ مَعاقِدَ القوَّةِ، فجَنَّدوا لغَزوِ هذه المَعاقِدِ وكَسرِها جُيوشَ الفَسادِ والفِتنةِ.
ولقد كان غَزوُهم للأخلاقِ الإسلاميَّةِ من عِدَّةِ جَبَهاتٍ:
1- لقد عَرَفوا أنَّ النَّبعَ الأساسيَّ الذي يُزَوِّدُ الإنسانَ المُسلمَ بالأخلاقِ الإسلاميَّةِ العَظيمةِ إنَّما هو الإيمانُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فصَمَّموا على أن يَكسِروا مَجاريَ هذا النَّبعِ العَظيمِ، ويَسُدُّوا عُيونَه، ويَقطَعوا شَرايينَه.
2- وعَرَفوا أنَّ تَفهُّمَ مَصادِرِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ تَفهُّمًا سَليمًا هو الذي يَمُدُّ نَبعَ الإيمانِ بما يَتَطَلَّبُه من مَعارِفَ، فمَكَروا بالعُلومِ الإسلاميَّةِ، وبالدِّراساتِ المُتَعلِّقةِ بها مَكرًا بالغًا، وذلك ما بَينَ حَجبٍ لها تارةً، وتَلاعُبٍ بمَفاهيمِها أخرى، وتَشويهٍ لها أو جُحودٍ ومُضايَقةٍ لروَّادِها ومُبلِّغيها، كُلُّ ذلك في حَربٍ مُستَمِرَّةٍ لا تَعرِفُ كَللًا ولا مَللًا.
3- وعَرَفوا قيمةَ الإفسادِ العَمَليِّ التَّطبيقيِّ، فوجَّهوا جُنودَهم لغَمسِ أبناءِ المُسلمينَ في بيئاتٍ مَشحونةٍ بالانحِلالِ الخُلُقيِّ، بُغيةَ إصابَتِهم بالرَّذائِلِ الخُلُقيَّةِ عن طَريقِ العَدوى، وسِرايةِ الفسادِ بقوَّةِ تَأثيرِ البيئةِ، واستِمراءِ الشَّهَواتِ المُرتَبطةِ برَذائِلِ الأخلاقِ.
4- وعَرَفوا قيمةَ إفسادِ المَفاهيمِ والأفكارِ، فجَنَّدوا جُيوشَ المُضَلِّلينَ الفِكريَّينَ، الذينَ يَحمِلونَ إلى أبناءِ المُسلمينَ الأفكارَ والمَفاهيمَ والفلسَفاتِ الباطِلةَ ضِمنَ وارِداتِ المَعارِفِ المادِّيَّةِ الصَّحيحةِ، ذاتِ المُنجَزاتِ الحَضاريَّةِ المُدهِشةِ، وعن طَريقِ هذا الغَزوِ الفِكريِّ الخَطيرِ يُدخِلونَ السُّمَّ في الدَّسَمِ.

( يتبع - من أقوالِ أعداءِ الإسلامِ والمُسلمينَ )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:31 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

من أقوالِ أعداءِ الإسلامِ والمُسلمينَ

- جاءَ في خِطاب... (صَموئيل زويمر) رَئيسِ إرساليَّةِ التَّبشيرِ في البَحرينِ مُنذُ أوائِلِ القَرنِ العِشرينَ الميلاديِّ، الذي خَطَبَه في مُؤتَمَرِ القُدسِ التَّبشيريِّ، الذي انعَقدَ برِئاسَتِه سَنةَ (1953م) ما يَلي:
... ولكِنَّ مُهمَّةَ التَّبشيرِ التي نَدَبَتكُم دولُ المَسيحيَّةِ للقيامِ بها في البلادِ المُحَمَّديَّةِ ليست هي إدخالَ المُسلمينَ في المَسيحيَّةِ، فإنَّ في هذا هدايةً لهم وتَكريمًا، وإنَّما مُهمَّتُكُم أن تُخرِجوا المُسلمَ منَ الإسلامِ، ليُصبِحَ مَخلوقًا لا صِلةَ له باللهِ، وبالتَّالي فلا صَلاةَ تَربُطُه بالأخلاقِ التي تَعتَمِدُ عليها الأمَمُ في حَياتِها، وبذلك تَكونونَ أنتُم بعَمَلِكُم هذا طَليعةَ الفتحِ الاستِعماريِّ في المَمالكِ الإسلاميَّةِ، وهذا ما قُمتُم به خِلالَ الأعوامِ المِائةِ السَّالفةِ خَيرَ قيامٍ، وهذا ما أهَنِّئُكُم عليه وتُهَنِّئُكُم دولُ المَسيحيَّةِ والمَسيحيُّونَ جَميعًا كُلَّ التَّهنِئةِ...!
- وجاءَ في نَشرةِ المَشرِقِ الأعظَمِ الماسونيِّ الفرَنسيِّ لسَنةِ (1923م) ما يَلي:
... وبُغيةَ التَّفريقِ بَينَ الفردِ وأسرَتِه عليكُم أن تَنتَزِعوا الأخلاقَ من أسُسِها؛ لأنَّ النُّفوسَ تَميلُ إلى قَطعِ رَوابطِ الأسرةِ والاقتِرابِ منَ الأمورِ المُحَرَّمةِ؛ لأنها تُفضِّلُ الثَّرثَرةَ في المَقاهي على القيامِ بتَبعاتِ الأسرةِ...
- وجاءَ في البُروتوكولِ الثَّاني منَ المُقَرَّراتِ اليهوديَّةِ السِّرِّيَّةِ ما يَلي:
... إنَّ الطَّبَقاتِ المُتَعلِّمةَ ستَختالُ زَهوًا أمامَ أنفُسِها بعِلمِها، وستَأخُذُ جُزافًا في مُزاولةِ المَعرِفةِ التي حَصَّلَتها منَ العِلمِ الذي قدَّمَه إليها وُكَلاؤُنا؛ رَغبةً في تَربيةِ عُقولِهم حَسَبَ الاتِّجاهِ الذي تَوخَّيناه.
ولا تَتَصَوَّروا أنَّ كَلماتِنا جَوفاءُ، ولاحِظوا هنا أنَّ نَجاحَ (دارونَ) و(ماركِس) و(نيتشَه) والأثَرَ غَيرَ الأخلاقيِّ لاتِّجاهِ هذه العُلومِ في الفِكرِ الأمَميِّ أي عِندَ غَيرِ اليهودِ سيَكونُ واضِحًا لنا على التَّأكيدِ!) .
(أمَّا طَريقةُ دُهاةِ التَّضليلِ لهَدمِ الأبنيةِ الأخلاقيَّةِ فهي تَتَلخَّصُ بما يَلي:
1- أن يُقنِعوا الأجيالَ بأنَّ الأخلاقَ نِسبيَّةٌ اعتِباريَّةٌ لا ثَباتَ لها، وليس لها حَقائِقُ ثابتةٌ في ذاتِها، فهي خاضِعةٌ للتَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ.
2- أن يَستَغِلُّوا بخُبثٍ بَعضَ النَّظَريَّاتِ الفلسَفيَّةِ التي من شَأنِها تَقليلُ قيمةِ الأخلاقِ في نُفوسِ النَّاسِ؛ إذ تُقيمُها على أسُسٍ واهنةٍ ضَعيفةٍ، أو على شَفا جُرُفٍ هارٍ! ومَتى قامَت في نُفوسِ النَّاسِ على مِثلِ ذلك تَداعَتِ الأبنيةُ الأخلاقيَّةُ التَّقليديَّةُ ثمَّ انهارَت وحَلَّت مَحَلَّها أنانيَّاتٌ فوضَويَّةٌ تَعتَمِدُ على القوَّةِ والحيلةِ، والإباحيَّةِ المُطلَقةِ لكُلِّ شَيءٍ مُستَطاعٍ، فلا خَيرَ إلَّا ما تَدعَمُه القوَّةُ، ولا شَرَّ إلَّا ما تَضعُفُ القوَّةُ عن تَحقيقِه.
3- أن يُلفِّقوا من عِندِ أنفُسِهم نَظَريَّاتٍ فلسَفيَّةً يَخدَعونَ بها النَّاسَ، لا سيَّما النَّاشِئونَ منهم، ويَستَغِلُّونَ فيهم رَغَباتِ المُراهَقةِ بالتَّمَرُّدِ على الحَقِّ والواجِبِ، تَطَلُّعًا لمجدٍ مَوهومٍ، وقد تَطولُ فترةُ المُراهَقةِ عِندَ بَعضِ النَّاشِئينَ، حتَّى تَكتَسِحَ عُمرَ الشَّبابِ منهم، وجُزءًا من عُمرِ الكُهولةِ، وسَبَبُ ذلك الاستِسلامُ التَّامُّ لعَواطِفِ طَورِ المُراهَقةِ، ووُجودُ المُغَذِّياتِ الشَّيطانيَّةِ الخَبيثةِ، وضَعفُ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ أوِ انعِدامُها. ومَتى وجَدَت هذه الظُّروفَ المواتيةَ لنُموِّ الشَّرِّ، فليس منَ البَعيدِ أن يَصيرَ الإنسانُ شَيخًا في سِنِّه وجِسمِه ويَبقى مُراهِقًا في عَقلِه ونَفسِه.
4- اتِّخاذُ الوسائِلِ العَمَليَّةِ التَّطبيقيَّةِ لإفسادِ أخلاقِ الأمَمِ، وأهَمُّها الغَمسُ في بيئاتٍ مَوبوءةٍ بالأخلاقِ الفاسِدةِ، حتَّى تَكونَ الانحِرافاتُ عاداتٍ مُستطاباتٍ) .

( يتبع – ادعاء نسبية الأخلاق )

البراء الحريري
04-30-2025, 04:32 PM
تابع – مقدمات في الأخلاق والسلوك

ادِّعاءُ نِسبيَّةِ الأخلاقِ

يَعمَلُ المَلاحِدةُ والمادِّيُّونَ وأذنابُهم في خُطَطٍ خَبيثةٍ ماكِرةٍ على هَدمِ صَرحِ الأخلاقِ من خِلالِ دَعوى أنَّ الأخلاقَ أمورٌ اعتِباريَّةٌ نِسبيَّةٌ لا ثَباتَ لها، تَختَلفُ من مَكانٍ إلى مَكانٍ، ومن زَمانٍ إلى زَمانٍ، ومن أمَّةٍ إلى أمَّةٍ؛ فالذي يُعتَبَرُ مُنافيًا للأخلاقِ عِندَ شَعبٍ منَ الشُّعوبِ لا يُعتَبَرُ مُنافيًا للأخلاقِ عِندَ شَعبٍ آخَرَ، وبَعضُ ما كان مُستَنكَرًا فيما مَضى قد يُعتَبَرُ مُستَحسَنًا في عَصرٍ آخَرَ؛ فالأخلاقُ عِندَ هؤلاء مَفاهيمُ اعتِباريَّةٌ تَتَواضَعُ عليها الأمَمُ والشُّعوبُ، وليس لها ثَباتٌ في حَقيقَتِها.
(وإنَّ أسبابَ الغَلطِ أوِ المُغالَطةِ عِندَ أصحابِ فِكرةِ نِسبيَّةِ الأخلاقِ، تَرجِعُ إلى ثَلاثةٍ:
الأوَّلُ: تَعميمُهمُ اسمَ الأخلاقِ على أنواعٍ كَثيرةٍ منَ السُّلوكِ الإنسانيِّ؛ فلم يُمَيِّزوا الظَّواهرَ الخُلُقيَّةَ عنِ الظَّواهِرِ الجَماليَّةِ والأدَبيَّةِ، وعنِ العاداتِ والتَّقاليدِ الاجتِماعيَّةِ، وعنِ التَّعاليمِ والأحكامِ المَدَنيَّةِ أوِ الدِّينيَّةِ البَحتةِ، فحَشَروا مُفرَداتِ كُلِّ هذه الأمورِ تَحتَ عُنوانِ الأخلاقِ، فأفضى ذلك بهم إلى الخَطَأِ الأكبَرِ، وهو حُكمُهم على الأخلاقِ بأنَّها أمورٌ اعتِباريَّةٌ نِسبيَّةٌ.
الثَّاني: أنَّهم جَعلوا مَفاهيمَ النَّاسِ عنِ الأخلاقِ مصدَرًا يُرجَعُ إليه في الحُكمِ الأخلاقيِّ، مَعَ أنَّ في كَثيرٍ من هذه المَفاهيمِ أخطاءً فادِحةً، وفسادًا كَبيرًا يَرجِعُ إلى تَحَكُّمِ الأهواءِ والشَّهَواتِ والعاداتِ والتَّقاليدِ فيها، ويَرجِعُ أيضًا إلى أمورٍ أخرى غَيرِ ذلك، والتَّحَرِّي العِلميُّ يَطلُبُ منَ الباحِثينَ أن يَتَتَبَّعوا جَوهَرَ الحَقيقةِ حَيثُ توجَدُ الحَقيقةُ، لا أن يَحكُموا عليها من خِلالِ وِجهةِ نَظَرِ النَّاسِ إليها، فكُلُّ الحَقائِقِ عُرضةٌ لأن يُثبِتَها مُثبِتونَ، ويُنكِرَها مُنكِرونَ، ويَتَشَكَّكَ بها مُتَشَكِّكونَ، ويَتَلاعَبَ فيها مُتَلاعِبونَ، ومَعَ ذلك تبقى على ثَباتِها، لا تُؤَثِّرُ عليها آراءُ النَّاسِ فيها.
الثَّالثُ: اعتِمادُهم على أفكارِهم وضَمائِرِهم فقَط، وجَعلُها المِقياسَ الوحيدَ الذي تُقاسُ به الأخلاقُ.
أمَّا مَفاهيمُ الإسلامِ فإنَّها... قد مَيَّزَتِ الأخلاقَ عَمَّا سِواها، ومَيَّزَتِ السُّلوكَ الأخلاقيَّ عن سائِرِ أنواعِ السُّلوكِ الإنسانيِّ، فلم تُعَمِّمْ تَعميمًا فاسِدًا، ولم تُدخِلْ في مُفرَداتِ الأخلاقِ ما ليس منها، وهي أيضًا لم تَعتَمِدْ على مَفاهيمِ النَّاسِ المُختَلفةِ، ولم تَتَّخِذْها مَصدرًا يُرجَعُ إليه في الحُكمِ الأخلاقيِّ، وأمَّا العَقلُ والضَّميرُ فإنَّها لم تُهمِلْهما وإنَّما قَرَنَتْهما بعاصِمٍ يَرُدُّهما إلى الصَّوابِ كُلَّما أخطَأ سَبيلَ الحَقِّ والهدايةِ والرَّشادِ، وهذا العاصِمُ هو الوحيُ الذي نَزَل بدينِ اللهِ لعِبادِه، وشَرائِعِه لخَلقِه، وتَعاليمِه التي لا يَأتيها الباطِلُ من بَينِ يَدَيها ولا من خَلفِها؛ لأنهَّا تَنزيلٌ من عَزيزٍ حَكيمٍ، وقد بلَّغَها رُسُلُه. أمَّا صورَتُها المُثلى المَحفوظةُ منَ التَّغييرِ فهي ما ثَبَتَ في نُصوصِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ المُنَزَّلةِ على رَسولِ اللهِ مُحَمَّدٍ صَلواتُ اللهِ وسَلاماتُه عليه وعلى سائِرِ الأنبياءِ والمُرسَلينَ.
فمَن تَبَصَّرَ بالأصولِ العامَّةِ للأخلاقِ في المَفاهيمِ الإسلاميَّةِ، وتَبَصَّرَ بأنَّ الأخلاقَ الإسلاميَّةَ مُقتَرِنةٌ بالوصايا والأوامِرِ والنَّواهي الرَّبَّانيَّةِ، وتَبَصَّر بأنَّ هذه الوصايا والأوامِرَ والنَّواهيَ مَحفوفةٌ بقانونِ الجَزاءِ الإلهيِّ بالثَّوابِ العِقابِ، فإنَّه لا بُدَّ أن يَظهرَ له بجَلاءٍ أنَّ الأخلاقَ الإسلاميَّةَ هي حَقائِقُ في ذاتِها، وهي ثابتةٌ ما دامَ نِظامُ الكَونِ ونِظامُ الحَياةِ ونِظامُ الخَيرِ والشَّرِّ أمورًا مُستَمِرَّةً ثابتةً، وهي ضِمنَ المَفاهيمِ الإسلاميَّةِ الصَّحيحةِ غَيرُ قابلةٍ للتَّغَيُّرِ ولا للتَّبَدُّلِ من شَعبٍ إلى شَعبٍ، ولا من زَمانٍ إلى زَمانٍ.
أمَّا الأمَّةُ الإسلاميَّةُ فهي أمَّةٌ واحِدةٌ، وهي لا تَتَواضَعُ فيما بَينَها على مَفاهيمَ تُخالفُ المَفاهيمَ التي بَيَّنَها الإسلامُ، والتي أوضحَها في شَرائِعِه ووصاياه.
وإذا رَجَعْنا إلى مُفرَداتِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ وجَدْنا أنَّ كُلَّ واحِدةٍ منها -ضِمنَ شُروطِها وقُيودِها وضَوابطِها- ذاتُ حَقيقةٍ ثابتةٍ، وهي غَيرُ قابلةٍ في المَنطِقِ السَّليمِ للتَّحَوُّلِ من حَسَنٍ إلى قَبيحٍ، أو من قَبيحٍ إلى حَسَنٍ. إنَّ حُسنَها حَسَنٌ في كُلِّ زَمانٍ، وقَبيحَها قَبيحٌ في كُلِّ زَمانٍ، ولا يُؤَثِّرُ على حَقيقَتِها أن تَتَواضَعَ بَعضُ الأمَمِ على تَقبيحِ الحَسَنِ منها، أو تَحسينِ القَبيحِ؛ تَأثُّرًا بالأهواءِ، أو بالشَّهَواتِ، أو بالتَّقاليدِ العَمياءِ.
إنَّ الإسلامَ يُقَرِّرُ أنَّ حُبَّ الحَقِّ وكَراهيةَ الباطِلِ فضيلةٌ خُلُقيَّةٌ، ويُقَرِّرُ أنَّ كَراهيةَ الحَقِّ وحُبَّ الباطِلِ رَذيلةٌ خُلُقيَّةٌ، فهَل يَشُكُّ أحَدٌ سَويٌّ عاقِلٌ في أنَّ هذه الحَقيقةَ حَقيقةٌ ثابتةٌ غَيرُ قابلةٍ للتَّحَوُّلِ ولا للتَّغَيُّرِ، وإنْ تَواضَعَ على خِلافِها جَماعةٌ ذاتُ أهواءٍ؟! وهكذا سائِرُ الأمثِلةِ الأخلاقيَّةِ الإسلاميَّةِ) .

البراء الحريري
04-30-2025, 04:34 PM
موضوعنا القادم سيكون ان شاء الله عن ( الاحترام والتوقير )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:23 PM
الاحترام والتوقير

معنى الاحترامِ والتَّوقيرِ لُغةً واصطِلاحًا
الاحترامُ لُغةً:
الاحترامُ: مِن الحُرمةِ، وهي: المهابةُ، يقالُ: احترمه، أي: كرَّمه وأكبَرَه، وأحسَنَ معاملتَه حُبًّا ومهابةً .
الاحترامُ اصطِلاحًا:
الاحترامُ هو الإكبارُ والمهابةُ ورَعيُ الحُرمةِ وحُسنُ المعاملةِ .
التَّوقيرُ لُغةً:
والتَّوقيرُ: التَّعظيمُ والتَّبجيلُ .
التَّوقيرُ اصطِلاحًا:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّوقيرُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما فيه سكينةٌ وطمأنينةٌ من الإجلالِ والإكرامِ، وأن يُعاملَ من التَّشريفِ والتَّكريمِ والتَّعظيمِ بما يصونُه عن كُلِّ ما يخرِجُه عن حَدِّ الوَقارِ) .

الحث على الاحترام والتوقير
أ- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
النَّاظِرُ في نُصوصِ السُّنَّةِ المُشرَّفةِ يلاحِظُ بجَلاءٍ ما اشتملَت عليه من حثٍّ على التَّوقيرِ والاحترامِ في مختَلِفِ صوَرِه وأشكالِه؛ فقد أمرَت السُّنَّةُ بحُسنِ المعاملةِ والبشاشةِ، والقولِ الحَسَنِ وبَذلِ السَّلامِ، ودعَت إلى تهذيبِ اللِّسانِ، والتَّحَلِّي بالتَّسامُحِ، ونَبذِ الفُحشِ والبذاءةِ حتَّى مع غيرِ المُسلِمِ، وبالجُملةِ فهي أمثلةٌ حَيَّةٌ وصُوَرٌ مُشرِقةٌ لمعاني الاحترامِ والتَّوقيرِ.
1- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ((جاء شيخٌ يريدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبطأ القومُ أن يُوَسِّعوا له، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليس منَّا مَن لم يُوقِّرْ كبيرَنا، ويرحَمْ صغيرَنا)) . وفي روايةِ عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه: ((ويَعرِفُ شَرَفَ كَبيرِنا)) ، وهذا زَجرٌ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: ((ليس مِنَّا)) أي: ليس من أهلِ سُنَّتِنا وهَدْيِنا وطريقتِنا مَن لم يُوَقِّرِ الكبيرَ ويُعَظِّمْه، وهو شامِلٌ للشَّابِّ والشَّيخِ .
2- عن أبي مَسعودٍ عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمسَحُ مناكِبَنا في الصَّلاةِ، ويقولُ: استَووا، ولا تختَلِفوا فتختَلِفَ قُلوبُكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلامِ والنُّهى، ثمَّ الذين يَلونَهم، ثمَّ الذين يَلونَهم. قال أبو مسعودٍ: فأنتم اليومَ أشَدُّ اختلافًا)) .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحرِصُ على توقيرِ ذوي المكانةِ والعِلمِ والفَضلِ، وتصديرِهم في مقدِّمةِ المجالِسِ، كما في وُقوفِ ذوي الأحلامِ والنُّهى خَلفَ الإمامِ، ولا يكونُ ذلك في الغالِبِ إلَّا لكبارِ السِّنِّ ومن لديهم من العِلمِ والمكانةِ ما يستوجِبُ احترامَهم وتوقيرَهم، كما استوجب أن يقدَّموا فيكونوا في الصَّفِّ الأوَّلِ خَلفَ الإمامِ، ولا يختَصُّ هذا التَّقديمُ بالصَّلاةِ، بل السُّنَّةُ أن يُقَدَّمَ أهلُ الفَضلِ في كُلِّ مجمَعٍ إلى الإمامِ وكبيرِ المجلِسِ، كمجالسِ العِلمِ والقَضاءِ والذِّكرِ والمشاورةِ، ومواقِفِ القِتالِ، وإمامةِ الصَّلاةِ، والتَّدريسِ والإفتاءِ، وإسماعِ الحديثِ ونحوِها، ويكونُ النَّاسُ فيها على مراتِبِهم في العِلمِ والدِّينِ والعَقلِ، والشَّرَفِ والسِّنِّ والكفاءةِ .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : ((يُسَلِّمُ الصَّغيرَ على الكبيرِ...)) .
و(تسليمُ الصَّغيرِ لأجْلِ حَقِّ الكبيرِ؛ لأنَّه أُمِرَ بتوقيرِه والتَّواضُعِ له) .

ب- من أقوالِ السَّلَفِ والعُلَماءِ
- قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (تعلَمُ أنَّك لو طلَبْتَ مُنَزَّهًا عن كُلِّ عيبٍ اعتزَلْتَ عن الخَلقِ كافَّةً، ولن تجِدَ مَن تصاحِبُه أصلًا؛ فما من أحَدٍ من النَّاسِ إلَّا وله محاسِنُ ومَساوئُ، فإذا غلبَت المحاسِنُ المساوئَ فهو الغايةُ والمنتهى، فالمُؤمِنُ الكريمُ أبدًا يُحضِرُ في نفسِه محاسِنَ أخيه لينبَعِثَ من قَلبِه التَّوقيرُ والوُدُّ والاحترامُ، وأمَّا المُنافِقُ اللَّئيمُ فإنَّه أبدًا يلاحِظُ المساوئَ والعُيوبَ) .
- قال ابنُ المبارَكِ: (حَقٌّ على العاقِلِ ألَّا يستخِفَّ بثلاثةٍ: العُلَماءِ، والسَّلاطينِ، والإخوانِ؛ فإنَّه مَن استخَفَّ بالعُلَماءِ ذَهَبت آخِرَتُه، ومن استخَفَّ بالسُّلطانِ ذهَبت دُنياه، ومَن استخَفَّ بالإخوانِ ذهَبَت مروءتُه) .
- عن العَبَّاسِ بنِ عبدِ العظيمِ العَنبريِّ، قال: (كنتُ عِندَ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ وجاءه عليُّ بنُ المدينيِّ راكِبًا على دابَّةٍ، قال: فتناظَرا في الشَّهادةِ وارتفَعَت أصواتُهما حتَّى خِفتُ أن يقَعَ بَيْنَهما جفاءٌ، وكان أحمدُ يرى الشَّهادةَ، وعليٌّ يأبى ويدفَعُ، فلمَّا أراد عليٌّ الانصرافَ قام أحمدُ فأخَذ برِكابِه) .
- قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا على توقيرِ أهلِ القرآنِ والإسلامِ، والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك الخليفةُ والفاضِلُ والعالِمُ) .
- وعن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيه، قال: (من السُّنَّةِ أن يُوَقَّرَ أربعةٌ: العالِمُ، وذو الشَّيبةِ، والسُّلطانُ، والوالِدُ) .
- وقال يحيى بنُ مُعاذٍ: (إنَّ العبدَ على قَدرِ حُبِّه لمولاه يحبِّبُه إلى خَلقِه، وعلى قَدرِ توقيرِه لأمرِه يُوَقِّرُه خَلْقُه ...) .
- وعن الحُسَينِ الوَرَّاقِ، قال: سألتُ أبا عُثمانَ عن الصُّحبةِ، فقال: (الصُّحبةُ مع اللَّهِ عزَّ وجَلَّ بحُسنِ الأدَبِ ودوامِ الهَيبةِ والمراقَبةِ، والصُّحبةُ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ سُنَّتِه ولُزومِ ظاهِرِ العِلمِ، والصُّحبةُ مع أولياءِ اللَّهِ بالاحترامِ والحُرمةِ، والصُّحبةُ مع الأهلِ والولَدِ بحُسنِ الخُلُقِ، والصُّحبةُ مع الإخوانِ بدَوامِ البِشرِ والانبِساطِ ما لم يكُنْ إثمًا، والصُّحبةُ مع الجُهَّالِ بالدُّعاءِ لهم والرَّحمةِ عليهم، ورُؤيةِ نِعمةِ اللَّهِ عليك أن عافاك ممَّا ابتلاهم به) .
- وقال سَهلٌ التُّستَريُّ: (لا يزالُ النَّاسُ بخيرِ ما عظَّموا السُّلطانَ والعُلَماءَ، فإذا عَظَّموا هذين أصلَح اللَّهُ دُنياهم وأُخراهم، وإذا استخفُّوا بهذين أفسَدوا دُنياهم وأُخراهم) .


( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:24 PM
تابع – الاحترام والتوقير

فوائِدُ الاحترامِ والتَّوقيرِ بَيْنَ النَّاسِ
1- يَعصِمُ من الوقوعِ في التَّعدِّي بالقَولِ أو الفِعلِ، فتُصانُ الحُرُماتُ وتُحفَظُ الأعراضُ.
2- يدفَعُ أسبابَ العداوةِ والبغضاءِ.
3- به يتحَقَّقُ العَدلُ ويُنَزَّلُ كُلُّ واحدٍ مَنزِلتَه.
4- من أسبابِ تقارُبِ وِجهاتِ النَّظرِ ودَفعِ الخِلافِ.
5- من أسبابِ تقويةِ أواصِرِ المحبَّةِ بَيْنَ النَّاسِ.
6- فيه امتِثالٌ لتعاليمِ الشَّرعِ الكريمِ.
7- يجلِبُ محبَّةَ اللَّهِ تعالى ومحبَّةَ النَّاسِ.
8- تقويةُ العلاقاتِ وغَرسُ الثِّقةِ بَيْنَ أفرادِ المجتَمَعِ.
9- من أسبابِ كَسبِ القُلوبِ ونجاحِ الدَّعَواتِ.

أقسامُ الاحترامِ والتَّوقيرِ
يمكِنُ تقسيمُ الاحترامِ والتَّوقيرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: الاحترامُ والتَّوقيرُ في القولِ، وذلك باستعمالِ الكلامِ الحسَنِ المشتَمِلِ على إظهارِ الأدَبِ، والتَّقديرِ وإنزالِ النَّاسِ منازِلَهم اللَّائقةَ بهم، ومخاطبتِهم خِطابًا يَدُلُّ على احترامِهم وتقديرِهم.
الثَّاني: الاحترامُ والتَّوقيرُ في الفِعلِ، وذلك بالمعاملةِ اللَّائقةِ لمن نتعامَلُ معهم، وتقديمِهم والاستماعِ إليهم
الثَّالِثُ: الاحترامُ والتَّوقيرُ بالتَّركِ، وذلك بتركِ كُلِّ قولٍ أو فعلٍ يتضَمَّنُ الإساءةَ، أو يَحصُلُ به الأذى أو الانتِقاصُ.

مظاهِرُ وصُوَرُ الاحترامِ والتَّوقيرِ
1- توقيرُ المُسلِمِ لرَبِّه سُبحانَه وتعظيمُه بما يليقُ به، وهذا التَّوقيرُ للهِ سُبحانَه ينتُجُ عنه احترامُ أوامِرِه ونواهيه، وتعظيمُ دينِه وشَرعِه، وحِرصُ المُسلِمِ على التَّحلِّي بجميلِ الصِّفاتِ التي أَمَر بها سُبحانَه، فهذا التَّوقيرُ يُثمِرُ الخيرَ للعبدِ في الدُّنيا والآخرةِ، ويُثمِرُ التَّخلُّقَ بالأخلاقِ التي يعودُ أثَرُها ونَفعُها على النَّاسِ في معاشرتِهم والتَّعامُلِ معهم.
قال اللَّه تعالى حكايةً عن نبيِّه نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه قال لقومِه عندما كفَروا به وبرسالتِه: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13] ، أي: ما لكم لا ترون للهِ عَظَمةً، وقيل: ولا تُعَظِّمون اللَّهَ حَقَّ عَظمتِه ، فاستخدمَ لَفظَ الوَقارِ في معنى التَّوقيرِ والتَّعظيمِ للهِ تعالى بما يليقُ به سُبحانَه من كمالِ التَّعظيمِ والتَّبجيلِ.
2- احترامُ وتوقيرُ المُسلِمِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتعظيمِ أمرِه ونهيِه، واتِّباعِ آثارِه، والسَّيرِ على طريقتِه، وألَّا يُقدِّمَ شيئًا على ما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللَّه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 8 - 9] .
قال ابنُ كثيرٍ: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ، قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُ واحِدٍ: يُعَظِّموه. وَتُوَقِّرُوهُ من التَّوقيرِ، وهو الاحترامُ والإجلالُ والإعظامُ) .
وقال السَّعديُّ: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أي: تُعَزِّروا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتُوَقِّروه، أي: تُعَظِّموه وتُجِلُّوه، وتقوموا بحُقوقِه، كما كانت له المِنَّةُ العظيمةُ برِقابِكم) .
وقال اللَّهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 1 - 4] ، فبيَّن سُبحانَه أنَّ الذين يَخفِضون أصواتَهم عِندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توقيرًا وتبجيلًا له، أولئك هم الذين امتحَن اللَّهُ قلوبَهم لتَقواه، وأخلصَهم لها، ولهم مَغفرةٌ لذُنوبِهم، ولهم ثوابٌ عظيمٌ عِندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ، فيُدخِلُهم الجنَّةَ .
وقال اللَّهُ تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] في تلك الآيةِ يَظهَرُ الأمرُ بتوقيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحترامِه؛ فقد نهى اللَّهُ سُبحانَه المُسلِمين أن ينادوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ مُناداتِهم بعضِهم بعضًا، وقد التَزم الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم الأدَبَ في مناداتِه، فكانوا ينادونه: يا رسولَ اللَّهِ، ويا نبيَّ اللَّهِ، أو يا أيُّها النَّبيُّ، ويا أيُّها الرَّسولُ .
وقال القاضي عِياضٌ: (اعلَمْ أنَّ حُرمةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ مَوتِه وتوقيرَه وتعظيمَه لازمٌ كما كان حالَ حياتِه، وذلك عِندَ ذِكرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذِكرِ حَديثِه وسُنَّتِه، وسماعِ اسمِه وسيرتِه، ومعاملةِ آلِه وعِترتِه ، وتعظيمَ أهلِ بَيتِه وصَحابتِه) .
وعن حمَّادِ بنِ زَيدٍ، قال: (كنَّا عِندَ أيُّوبَ فسَمِع لَغَطًا، فقال: ما هذا اللَّغَطُ؟ أمَا بلَغَهم أنَّ رفعَ الصَّوتِ عِندَ الحديثِ عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرفعِ الصَّوتِ عليه في حياتِه) .
3- احترامُ أُولي الأمرِ وتوقيرُهم، ومن مظاهِرِ احترامِهم السَّمعُ والطَّاعةُ لهم في غيرِ معصيةٍ، وتركُ التَّشغيبِ عليهم، وعَدَمُ سَبِّهم أو إهانتِهم، وما ذلك إلَّا لِما قد يترَتَّبُ على مخالفةِ هذه الأوامِرِ من إحداثِ الفِتنةِ بَيْنَ النَّاسِ، وما قد يُفضي إلى الشُّرورِ.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وأولو الأمرِ أصحابُ الأمرِ وذَووه، وهم الذين يأمُرون النَّاسَ، وذلك يشتركُ فيه أهلُ اليَدِ والقُدرةِ، وأهلُ العِلمِ والكلامِ؛ فلهذا كان أولو الأمرِ صِنفَينِ: العُلَماءُ والأمراءُ. فإذا صلَحوا صلَح النَّاسُ، وإذا فسَدوا فسَد النَّاسُ) .
وقال القَرافيُّ: (ضَبطُ المصالحِ العامَّةِ واجِبٌ، ولا تنضَبِطُ إلَّا بعَظَمةِ الأئمَّةِ في نفسِ الرَّعيَّةِ، ومتى اختُلِف عليهم أو أُهينوا تعذَّرت المصلحةُ) .
وقال ابنُ حِبَّانَ: (الواجِبُ على كُلِّ مَن يغشى السُّلطانَ وامتُحِن بصُحبتِه ألَّا يَعُدَّ شَتمَه شَتمًا ولا إغلاظُه إغلاظًا ولا التَّقصيرُ في حَقِّه ذَنبًا؛ لأنَّ رِيحَ العِزَّةِ بسَطَت لسانَه ويَدَه بالغِلظةِ، فإن أنزله الوالي منزلةً رفيعةً من نفسِه فلا يَثِقَنَّ بها، وليجانِبْ معه كلامَ المَلَقِ، والإكثارَ من الدُّعاءِ في كُلِّ وقتٍ، وكثرةَ الانبساطِ؛ فرُبَّ كَلِمةٍ أثارت الوحشةَ، بل يجتَهِدُ في توقيرِه وتعظيمِه عِندَ النَّاسِ، فإنْ غَضِبَ فليحتَلْ في تسكينِ غَضَبِه باللِّينِ والمداراةِ، ولا يكونُ سببًا لتهييجِه) .

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:24 PM
تابع – الاحترام والتوقير

مظاهر وصور الاحترام والتوقير
4- احترامُ وتقديرُ العُلَماءِ وإنزالُهم المنزلةَ اللَّائقةَ بهم لمكانتِهم، ومن مظاهِرِ احترامِهم التَّعاوُنُ معهم على البِرِّ والتَّقوى، والحَذَرُ من قَدْحِهم أو الوقوعِ في غِيبتِهم.
قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] .
قال البَيهقيُّ: (فقَرَن اسمَ العُلَماءِ باسمِ الملائكةِ كما قَرَن اسمَ الملائكةِ باسمِه، وكما وَجَب الفضلُ للملائكةِ بما أكرمَهم به، فكذلك يجبُ الفَضلُ للعُلَماءِ بما أكرَمهم به مِن مِثلِه) .
ومن آدابِ المتعَلِّمِ النَّظَرُ إلى مُعَلِّمِه بعَينِ الاحترامِ والتَّبجيلِ؛ قال النَّوويُّ: (وعليه أن ينظُرَ مُعَلِّمَه بعَينِ الاحترامِ ويعتَقِدَ كَمالَ أهليَّتِه ورُجحانَه على طبقَتهِ؛ فإنَّه أقرَبُ إلى انتفاعِه به، وكان بعضُ المتقَدِّمين إذا ذهب إلى مُعَلِّمِه تصَدَّق بشَيءٍ، وقال: اللَّهُمَّ استُرْ عَيبَ مُعَلِّمي عني، ولا تُذهِبْ بَرَكةَ عِلمِه منِّي) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (وإذا كان الأنبياءُ لهم حَقَّ التَّبجيلِ والتَّعظيمِ والتَّكريمِ، فلمن ورَثَهم نصيبٌ من ذلك... وبتوقيرِ العُلَماءِ تُوَقَّرُ الشَّريعةُ؛ لأنَّهم حامِلوها، وبإهانةِ العُلَماءِ تُهانُ الشَّريعةُ؛ لأنَّ العُلَماءَ إذا ذلُّوا وسقطوا أمامَ أعيُنِ النَّاسِ ذلَّت الشَّريعةُ التي يحمِلونها، ولم يَبْقَ لها قيمةٌ عِندَ النَّاسِ، وصار كُلُّ إنسانٍ يحتَقِرُهم ويزدريهم، فتضيعُ الشَّريعةُ، كما أنَّ وُلاةَ الأمرِ مِن الأمراءِ والسَّلاطينِ يَجِبُ احترامُهم وتوقيرُهم وتعظيمُهم وطاعتُهم، حَسَبَ ما جاءت به الشَّريعةُ؛ لأنَّهم إذا احتُقِروا أمامَ النَّاسِ، وأُذِلُّوا، وهُوِّن أمرُهم؛ ضاع الأمنُ، وصارت البلادُ فوضى، ولم يكُنْ للسُّلطانِ قُوَّةٌ ولا نفوذٌ) .
وقيل: (توقيرُ حَمَلةِ الشَّرعِ وحُماتِه من توقيرِ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى، فكُلُّ ما يَشرُفُ بالإضافةِ إلى اللَّهِ تعالى فإنَّ حَقَّه التَّعظيمُ والتَّوقيرُ) .
5- احترامُ وتوقيرُ طَلَبةِ العِلمِ الذين سلَكوا سبيلَه وسَعَوا في تحصيلِه، ومن احترامِهم إنزالُهم منزلةً تليقُ بهم وبالعِلمِ الذي يطلبونَه، دونَ التَّنقُّصِ منهم أو الاستخفافِ بجُهدِهم، أو الحَطِّ من شأنِهم ولو كانوا صغارًا، فإنَّما رفعهم العلمُ الذي يَطلُبونَه.
قال السَّجزيُّ: (فالمتَّبعُ للأثَرِ يجِبُ تقدُّمُه وإكرامُه، وإن كان صغيرَ السِّنِّ غيرَ نَسيبٍ، والمخالِفُ له يلزَمُ اجتنابُه وإن كان مُسِنًّا شريفًا) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى بطَلَبةِ العِلمِ خيرًا، وما ذاك إلَّا لفَضلِ مطلوبِهم وشَرَفِه) .
وبوَّب الخطيبُ البغداديُّ في الجامعِ: (بابُ توقيرِ المحَدِّثِ طَلَبةَ العِلمِ، وأخذِه نفسَه بحُسنِ الاحتمالِ لهم والحِلمِ) ، وذَكَر تحتَ هذا البابِ فُصولًا كثيرةً في احترامِ وتوقيرِ طلبةِ العِلمِ.
6- احترامُ وتوقيرُ الوالدَينِ؛ فقد أكَّد الإسلامُ على ضرورةِ توقيرِ الوالِدَين، والإحسانِ إليهما والاعتناءِ بهما ولو كانا كافِرَينِ، وحرَّم الإساءةَ إليهما بأيِّ صورةٍ كانت وجَرَّمَها.
قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] ، فالإنسانُ مأمورٌ بتوقيرِ والِدَيه واحترامِهما حتَّى وإن طلبا منه الدُّخولَ في الكُفرِ والشِّركِ، مع عَدَمِ طاعتِهما في ذلك، ثمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تعالى الطَّريقةَ العَمَليَّةَ لبِرِّهما وتوقيرِهما، فقال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلفظُ المصاحبةِ يدُلُّ على التَّرفُّقِ والرَّحمةِ بهما مع التَّوقيرِ الكامِلِ لهما، ثمَّ يكونُ التَّوقيرُ والمصاحبةُ بالمعروفِ .
وفي آياتٍ أُخرى أمَر اللَّهُ سُبحانَه بتوقيرِ الوالِدَين خاصَّةً، وبيَّن صُوَرًا عمليَّةً لكيفيَّةِ توقيرِهما، فقال سُبحانَه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23 - 24] ، فمِن مظاهِرِ التَّوقيرِ للوالِدَين توقيرُهما بالقَولِ الحَسَنِ الكريمِ، وعَدَمُ التَّلفُّظِ بما يدُلُّ على الضَّجَرِ، ثمَّ التَّوقيرُ والاحترامُ بالفِعلِ، بلِينِ الجانِبِ والتَّذلُّلِ لهما مع الرَّحمةِ بهما، ثمَّ بالدُّعاءِ لهما بأن يرحمَهما اللَّهُ جزاءً وِفاقًا على تربيتِهما لأبنائِهم .
قال حَنبَلٌ: (كانت كُتُبُ أبي عبدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ التي يكتُبُ بها: من فلانٍ إلى فلانٍ، فسألتُه عن ذلك، فقال: رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كتَبَ إلى كِسرى وقيصَرَ، وكتَب كُلَّ ما كَتَب على ذلك، وأصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَمرٌو كَتَب إلى عُتبةَ بنِ فَرقَدٍ، وهذا الذي يكتُبُ اليومَ: لفلانٍ، مُحدَثٌ لا أعرِفُه، قلتُ: فالرَّجُلُ يبدأُ بنفسِه؟ قال: أمَّا الأبُ فلا أحِبُّ إلَّا أن يُقَدِّمَه باسمِه، ولا يبدَأْ وَلَدٌ باسمِه على والِدٍ، والكبيرُ السِّنِّ كذلك يُوَقِّرُه به) .
7- احترامُ وتوقيرُ الكبيرِ؛ فقد أعطى الإسلامُ الكبيرَ حَقَّه من الشَّرَفِ والتَّقديرِ والتَّوقيرِ، ومِن مظاهِرِ احترامِه التَّوسِعةُ له في المجلِسِ وتقديمُه، وخَفضُ الصَّوتِ عِندَ التَّحدُّثِ إليه، وإلانةُ القولِ له وإكرامُه والشَّفَقةُ عليه، والبَدءُ بالسَّلامِ عليه.
يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن لم يرحَمْ صغيرَنا، ويَعرِفْ حَقَّ كبيرِنا، فليس منَّا)) .
8- احترامُ المُسلِمِ لأخيه المُسلِمِ وتوقيرُه بحِفظِه في غَيبتِه، وعَدَمُ الإساءةِ إليه، وإلقاءُ السَّلامِ عليه، ونُصحُه، واستعمالُ الرِّفقِ والحِلمِ واللِّينِ والسَّماحةِ معه.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((حقُّ المُسلِمِ على المُسلِمِ سِتٌّ. قيل: ما هنَّ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصَحَك فانصَحْ له، وإذا عَطَس فحَمِدَ اللَّهَ فسَمِّتْه، وإذا مَرِضَ فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْه)) .
قال الصَّنعانيُّ: (اعلَمْ أنَّه ذَكَر في هذا سِتَّةَ حُقوقٍ، ومفهومُ عَدَدِه غيرُ مرادٍ؛ فإنَّ له حقوقًا غيرَها) .
والحذَرُ من الوقوعِ في عِرضِه باغتيابِه أو سَبِّه أو تحقيرِه أو فِعلِ ما يؤذيه، إلى غيرِ ذلك؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أتدرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكرَهُ، قيل: أفرأَيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه، وإنْ لم يكُنْ فيه فقد بهَتَّه)) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسلِمُ أخو المُسلِمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه ولا يَحقِرُه)) .
قال القاريُّ: (أي: لا يحتَقِرُه بذِكرِ المعايِبِ، وتنابُزِ الألقابِ، والاستهزاءِ والسُّخريَّةِ إذا رآه رَثَّ الحالِ، أو ذا عاهةٍ في بدَنِه، أو غيرَ لائقٍ في محادثتِه، فلعَلَّه أخلَصُ ضميرًا وأتقى قلبًا ممَّن هو على ضِدِّ صِفتِه، فيَظلِمُ نفسَه بتحقيرِ مَن وَقَّره اللَّهُ) .
وعن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سِبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ)) .
قال القُرطبيُّ: (قولُه: ((سبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ))، أي: خروجٌ عن الذي يجِبُ من احترامِ المُسلِمِ، وحُرمةِ عِرضِه وسَبِّه) .
وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : ((إذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنانِ دونَ الثَّالِثِ)) .
ومن ذلك احترامُ ظُروفِ النَّاسِ وحاجاتِهم ومراعاةُ مَرَضِ المريضِ منهم؛ فعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ قال: ((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي لَأتأخَّرُ عن صَلاةِ الغَداةِ من أجلِ فُلانٍ؛ ممَّا يُطيلُ بنا فيها، قال: فما رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطُّ أشَدَّ غضبًا في موعظةٍ منه يومَئِذٍ! ثُمَّ قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِنكم مُنَفِّرينَ، فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاسِ فلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فيهم الكَبيرَ والضَّعيفَ وذا الحاجةِ)) .
ومن ذلك احترامُ الأُمِّيِّ والمخطِئِ، والرِّفقُ بهما وتعليمُهما دونَ جَرحِ مَشاعِرِهما:
عن معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ، قال: ((بينا أنا أُصَلِّي مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَس رجُلٌ من القومِ، فقُلتُ: يرحمُك اللَّهُ! فرماني القومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاه! ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبون بأيديهم على أفخاذِهم، فلمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونني لكِنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ)) .
ومن ذلك الاحترامُ في المجالِسِ؛ فعن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه نهى أن يُقامَ الرَّجُلُ من مجلِسِه، ويجلِسَ فيه آخَرُ، ولكِنْ تَفَسَّحوا وتوَسَّعوا))، وكان ابنُ عُمَرَ يكرَهُ أن يقومَ الرَّجُلُ من مجلِسِه ثمَّ يجلِسَ مكانَه .
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة: 11] ، أي: إذا قيل لكم: توسَّعوا في المجالِسِ ليَجلِسَ آخرون معكم، فوسِّعوا لهم؛ فإنَّكم إن فعَلْتُم ذلك يوسِّعِ اللَّهُ عليكم في الدُّنيا والآخرةِ . إلى غيرِ ذلك من مظاهِرِ الاحترامِ والتَّوقيرِ والتَّبجيلِ بَيْنَ المُسلِمِ وأخيه المُسلِمِ.
بل يمتدُّ ذلك إلى احترامِ الأمواتِ، وفي الحديثِ: ((لا تَسُبُّوا الأمواتَ؛ فإنَّهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا)) . وعن عَمرِو بنِ حَزمٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((رآني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا متَّكِئٌ على قبرٍ، فقال: لا تؤذِ صاحِبَ القبرِ)) .
9- الاحترامُ والتَّوقيرُ بَيْنَ الزَّوجينِ، وأساسُ هذا الاحترامِ أن يَسكُنَ كُلُّ طَرَفٍ إلى شريكِه، ويُعَظِّمَ حَسَناتِه، ويتغاضى عن سيِّئاتِه ما أمكَن، وأن يكونَ أساسُ تعامُلِهما بالمعروفِ والإحسانِ، ويُغَلِّبا جانِبَ المودَّةِ والرَّحمةِ فيما بَيْنَهما على ما يقعُ من خلافاتٍ قلَّما يخلو منها بيتٌ.
قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
فينبغي أن يُعلَمَ (أنَّ الزَّواجَ هو أهَمُّ مُقَوِّماتِ الحياةِ، والمتمِّمُ للوظائِفِ الحيويَّةِ، والحافِظُ للجامعةِ البَشَريَّةِ من الانقراضِ والزَّوالِ بإذنِ اللَّهِ، وأساسٌ لتقديرِ المرءِ في الهيئةِ الاجتماعيَّةِ، وقِوامُه وجودُ الألفةِ والتَّحابُبِ والاحترامِ والتَّوقيرِ بَيْنَ الزَّوجينِ، وبه يحصُلُ التَّعاوُنُ والتَّعاضُدُ والتَّآلفُ والتَّآزُرُ بَيْنَ الأُسَرِ المتناسِبةِ؛ بسَبَبِ ما تمَّ بينها من المصاهرةِ المقَرِّبةِ للبعيدِ، والمحَبِّبةِ للقريبِ، والمُدْنيةِ للأجنَبيِّ) .
10- ومن ذلك احترامُ الجارِ لجارِه، والنُّصوصُ في حَقِّ الجارِ والوصيَّةُ به معلومةٌ مشهورةٌ.
11- احترامُ الضُّعَفاءِ والمساكينِ والخَدَمِ، وحُسنُ معاملتِهم، وعَدَمُ الاستخفافِ بهم أو الإساءةِ إليهم.
فعن أبي مسعودٍ البَدريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، لمَّا ضَرَب غلامَه قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اعلَمْ أبا مسعودٍ أنَّ اللَّه أقدَرُ عليك منك على هذا الغُلامِ!)) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ((أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجِدَ -أو شابًّا- ففَقَدها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأل عنها -أو عنه- فقالوا: مات، قال: أفلا كنتُم آذنْتُموني، قال: فكأنَّهم صغَّروا أمرَها -أو أمرَه- فقال: دُلُّوني على قَبرِه، فدَلُّوه، فصلَّى عليها)) .
12- احترامُ المرأةِ؛ قال عُمَرُ: (واللَّهِ إنْ كُنَّا في الجاهليَّةِ ما نَعُدُّ للنِّساءِ أمرًا، حتَّى أنزل اللَّهُ تعالى فيهِنَّ ما أنزَلَ، وقسَمَ لهنَّ ما قَسَم) ، والنُّصوصُ في الوصيَّةِ بالمرأةِ أُمًّا وزوجةً وبنتًا، وصلةِ الأرحامِ: كثيرةٌ معلومةٌ.

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:25 PM
تابع – الاحترام والتوقير

موانِعُ اكتسابِ الاحترامِ والتَّوقيرِ
1- الكِبرُ والخُيَلاءُ من الصِّفاتِ المانعةِ من الاحترامِ بَيْنَ النَّاسِ.
2- التَّعدِّي على أموالِ النَّاسِ وأعراضِهم.
3- العُبوسُ والتَّقطيبُ في وُجوهِ النَّاسِ.
4- اغتيابُ النَّاسِ ورَميُهم بالكَذِبِ والبُهتانِ.
5- الشُّحُّ والبُخلُ مَدعاةٌ لمقتِ البخيلِ الشَّحيحِ، وعَدَمِ توقيرِه أو الهيبةِ له.
6- الجَفاءُ وتَركُ التَّواصُلِ بَيْنَ النَّاسِ يكونُ سَبَبًا يحولُ دونَ استدامةِ الوُدِّ، بل يمنَعُ التَّوقيرَ والتَّبجيلَ.
7- الخُصوماتُ والنِّزاعاتُ عائِقٌ دونَ الوصولِ إلى المحبَّةِ المؤدِّيةِ إلى الاحترامِ والتَّوقيرِ.
8- الجَهلُ بأهمِّيَّةِ الاحترامِ والتَّقديرِ وما له من فوائِدَ.
9- سُوءُ الخُلُقِ.
10- إهمالُ تربيةِ الصِّغارِ على هذا الخُلُقِ.

الوسائِلُ المعينةُ على الاحترامِ والتَّوقيرِ
1- قَبولُ الغَيرِ في أقوالِه وأفعالِه واختياراتِه بما لا يتنافى مع أصلٍ من أصولِ الشَّريعةِ.
2- تركُ السُّخريَّةِ والاستهزاءِ بالغَيرِ.
3- تركُ الغِيبةِ والبُهتانِ.
4- التَّواضُعُ وتَركُ الكِبرِ.
5- تذكُّرُ كِبَرِ السِّنِّ وتقَدُّمِ العُمُرِ.
6- إلقاءُ السَّلامِ وإفشاؤه بَيْنَ النَّاسِ والتَّبسُّمُ في الوُجوهِ.
7- السَّعيُ في حاجةِ الآخَرين وبَذلُ النُّصحِ لهم.
8- معرفةُ أقدارِ النَّاسِ ومنازِلِهم.
9- معرفةُ الفوائِدِ والثِّمارِ المترَتِّبةِ على الاحترامِ والتَّوقيرِ للنَّاسِ.
10- أن يُحِبَّ المُسلِمُ لأخيه ما يحِبُّه لنفسِه، فكما يحِبُّ أن يُوَقِّرَه النَّاسُ ويحتَرِموه، فعليه أن يحتَرِمَهم ويوقِّرَهم؛ فعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يؤمِنُ أحَدُكم حتَّى يحِبَّ لأخيه ما يحِبُّ لنفسِه)) من كُلِّ خيرٍ دينيٍّ ودُنيويٍّ .
11- التَّربيةُ من الصِّغَرِ على الاحترامِ والتَّوقيرِ.
12- الصُّحبةُ الصَّالحةُ.
13- التَّحَلِّي بالأخلاقِ الحَسَنةِ، والبُعدُ عن مساوئِ الأخلاقِ.

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:26 PM
تابع – الاحترام والتوقير

نماذج من الاحترام والتوقير
أ- عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ
إبراهيمُ عليه السَّلامُ:
وقد تجلَّى احترامُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ تجلِّيًا واضِحًا في تعامُلِه مع أبيه، فلم يَحُلْ كُفرُ أبيه دونَ أن يعامِلَه معاملةً تَدُلُّ على احترامِه له وتوقيرِه؛ قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 41 - 47] .
وهكذا استعمل إبراهيمُ عليه السَّلامُ أُسلوبًا رقيقًا مع أبيه يدُلُّ على بالغِ الاحترامِ والرَّغبةِ في النُّصحِ والنَّفعِ، رَغْمَ إغلاظِ أبيه له في القَولِ. وقد (صَدَّر كُلَّ نصيحةٍ بقَولِه: يَا أَبَتِ توسُّلًا إليه واستِعطافًا وإشعارًا بوجوبِ احترامِ الأبِ وإن كان كافِرًا) .
موسى عليه السَّلامُ:
من النَّماذِجِ العَمَليَّةِ على توقيرِ العُلَماءِ ما ورد في قِصَّةِ نبيِّ اللَّهِ موسى مع الخَضِرِ عليهما السَّلامُ؛ قال اللَّهُ تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66] فيه دليلٌ على حُسنِ التَّلَطُّفِ والاستنزالِ، والأدَبِ في طَلَبِ العِلمِ، أخرَج الكلامَ بصورةِ الملاطفةِ والمشاورةَ، وأنَّك هل تأذنُ لي في ذلك أو لا، وإقرارُه بأنَّه يتعلَّمُ منه، بخلافِ ما عليه أهلُ الجفاءِ أو الكِبرِ، لا يُظهِرُ الواحِدُ منهم للمُعلِّمِ افتقارَه إلى عِلمِه، بل يدَّعي أنَّه يتعاونُ هو وإيَّاه، بل ربَّما ظنَّ أنَّه يُعَلِّمُ معلِّمَه، وهو جاهلٌ جدًّا، فالذُّلُّ للمُعَلِّمِ، وإظهارُ الحاجةِ إلى تعليمِه، مِن أنفعِ شيءٍ للمُتعلِّمِ . فموسَى عليه السَّلامُ راعى في ذلك غايةَ التَّواضُعِ والأدَبِ، فاستجهَل نفْسَه، واستأذَن أن يَكونَ تابِعًا له، وسأَل مِنه أن يُرشِدَه ويُنعِمَ عليه بتَعليمِ بعضِ ما أنعَم اللَّهُ عليه !
وفي هذه القِصَّةِ من الأدَبِ والفِقهِ: التَّذَلُّلُ، والتَّواضُعُ للعالمِ، وبَينَ يديه، واستئذانُه في سؤالِه، والمبالغةُ في احترامِه وإعظامِه، ومَن لم يفعَلْ هكذا فليس على سُنَّةِ الأنبياءِ ولا على هَدْيِهم .

ب- نماذِجُ من الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
توقيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكَبيرِ:
1- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتِيَ بشرابٍ فشَرِب منه، وعن يمينِه غلامٌ، وعن يسارِه الأشياخُ، فقال للغُلامِ: أتأذَنُ لي أن أعطيَ هؤلاء؟ فقال الغلامُ: واللَّه يا رسولَ اللَّهِ لا أوثِرُ بنصيبي منك أحَدًا! قال: فتَلَّه -أي: وضَعَه- رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في يَدِه)) . فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استأذن الغلامَ في أن يبدأَ بالأشياخِ توقيرًا لهم وتقديرًا لسِنِّهم، لكِنَّه مع ذلك لمَّا امتنع الغلامُ احترم حقَّه؛ لأنَّه كان على اليمينِ، والأيمَنُ في الشُّربِ ونحوِه يُقَدَّمُ وإن كان صغيرًا أو مفضولًا؛ لذا أعطاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشَّرابَ.
2- روت عائشةُ أمُّ المُؤمِنين رَضِيَ اللَّهُ عنها فقالت: ((ما رأيتُ أحَدًا أشبَهَ سَمتًا ودَلًّا وهَدْيًا برسولِ اللَّهِ في قيامِها وقُعودِها من فاطمةَ بنتِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: وكانت إذا دخَلَت على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قام إليها فقَبَّلَها وأجلَسَها في مجلِسِه، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دخَل عليها قامت من مجلِسِها فقبَّلَتْه وأجلسَتْه في مجلِسِها)) .
وعن سَهلِ بنِ أبي حَثمةَ، قال: ((انطلَقَ عبدُ اللهِ بنُ سَهلٍ، ومُحيِّصةُ بن مسعُود بن زيدٍ، إلى خيبرَ، وهي يومئذٍ صُلحٌ، فتفرَّقا فأتى مُحيِّصةُ إلى عبدِ اللهِ بنِ سَهلٍ وهو يتَشَحَّطُ في دَمِه قتيلًا، فدَفَنه ثُمّ قَدِم المدينةَ، فانطَلَق عبدُ الرَّحمنِ بنُ سهلٍ، ومُحيِّصةُ وحُوَيِّصةُ ابنا مسعُودٍ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذهب عبدُ الرَّحمنِ يتكلَّمُ فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدثُ القومِ، فسكتَ فتكلَّما، فقال: تحلِفُون وتستحقُّون قاتلَكُم، أو صاحِبَكم، قالوا: وكيف نحلِفُ ولم نشهَدْ ولم نَرَ؟ قال: فتُبريكُم يهُودُ بخمسينَ، فقالوا: كيف نأخُذُ أيمانَ قومٍ كُفَّارٍ، فعَقَله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِه)) .
(«كَبِّرْ كَبِّرْ» معناه: ليتكَلَّمِ الأكبَرُ، وأكَّده بالتَّكريرِ؛ تنبيهًا على شَرَفِ السِّنِّ) .

ج- نماذِجُ مِن صُوَرِ الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ الصَّحابةِ

توقيرُ الصَّحابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قال اللَّه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ [النور: 62] .
1- عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ في حديثِ صُلحِ الحُدَيبيَةِ: (ثمَّ إنَّ عُروةَ جَعَل يرمُقُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعينيه، قال: فواللَّهِ ما تنَخَّم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ منهم، فدَلَك بها وَجْهَه وجِلْدَه! وإذا أمَرَهم ابتَدَروا أمرَه، وإذا توضَّأ كادوا يقتَتِلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّم خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، فرَجَع عُروةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قَومِ، واللَّهِ لقد وفَدتُ على الملوكِ، ووفَدتُ على قَيصَرَ وكِسرى والنَّجاشيِّ، واللَّهِ إنْ رأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محمَّدًا، واللَّهِ إنْ تنخَّمَ نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدَلَك بها وَجْهَه وجِلدَه، وإذا أمَرهم ابتدَروا أمرَه، وإذا توضَّأ كادوا يقتَتِلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّم خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له) .
وفي القِصَّةِ نفسِها أنَّ عُروةَ بنَ مَسعودٍ (جَعَل يُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّما تكَلَّم أخَذ بلِحيتِه، والمُغيرةُ بنُ شُعبةَ قائِمٌ على رأسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعه السَّيفُ وعليه المِغفَرُ، فكُلَّما أهوى عُروةُ بيَدِه إلى لحيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَرَب يَدَه بنَعلِ السَّيفِ، وقال له: أخِّرْ يَدَك عن لحيةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
2- عن عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (وما كانَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أجَلَّ في عَينِي منه، وما كُنتُ أُطيقُ أن أملأَ عَينَيَّ منه إجلالًا له، ولو سُئِلتُ أن أصِفَه ما أطَقتُ؛ لأنِّي لم أكُنْ أملأُ عَينَيَّ منه) .
- وعن أبي أيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَزَل عليه، فنَزَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السُّفْلِ، وأبو أيُّوبَ في العُلْوِ، فانتبه أبو أيُّوبَ ذاتَ ليلةٍ، فقال: نمشي فوقَ رأسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فتنَحَّوا، فباتوا في ناحيةٍ، ثمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: السُّفْلُ أرفَقُ، فقال: لا أعلو سَقيفةً أنت تحتَها، فتحوَّل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في العُلْوِ، وأبو أيُّوبَ في السُّفْلِ، وكان يصنَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا، فإذا رُدَّ إليه سألَ عن موضِعِ أصابعِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتتَبَّعُ موضِعَ أصابعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَنَع له طعامًا فيه ثُومٌ، فلمَّا رُدَّ إليه سأل عن موضِعِ أصابعِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقيل له: إنَّه لم يأكُلْ منه، فصَعِدَ إليه فقال: أهو حرامٌ؟ قال: لا، ولكنِّي أكرَهُه، قال: فإنِّي أكرَهُ ما تكرَهُ، أو ما كَرِهْتَ)) .
- وعن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (إنْ كان ليأتي عَلَيَّ السَّنةُ أريدُ أن أسأَلَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شَيءٍ فأتهَيَّبُ منه) .

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:26 PM
تابع – الاحترام والتوقير

نماذج من الاحترام والتوقير
توقيرُ الصَّحابةِ بعضِهم بعضًا:
قال اللَّهُ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
1- عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرةً لا يسقُطُ وَرَقُها، وإنَّها مِثلُ المُسلِمِ، فحَدِّثوني ما هي؟ فوقع النَّاسُ في شَجَرِ البوادي، قال عبدُ اللهِ: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلةُ، فاستحَيَيتُ. ثمَّ قالوا: حَدِّثْنا ما هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: فقال: هي النَّخلةُ. قال: فذَكَرْتُ ذلك لعُمَرَ، قال: لأن تكونَ قُلتَ: هي النَّخلةُ، أحَبُّ إليَّ مِن كذا وكذا)) . فابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ما منعه من الكلامِ إلَّا احترامُه لأصحابِ رَسولِ اللَّهِ وتوقيرِه لهم فإنَّه لمَّا رآهم سكَتوا سكَتَ ولم يتكَلَّمْ بَيْنَ أيديهم. واللَّهُ أعلَمُ.
2- عن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: (لقد كنتُ على عَهدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غلامًا، فكنتُ أحفَظُ عنه، فما يمنعُني من القولِ إلَّا أنَّ هاهنا رجالًا هم أسَنُّ منِّي) .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: (خرجتُ مع جريرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ البَجَليِّ في سَفَرٍ فكان يَخدُمُني، فقُلتُ له: لا تفعَلْ، فقال: إنِّي قد رأيتُ الأنصارَ تصنَعُ برَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا، آليتُ ألَّا أصحَبَ أحدًا منهم إلَّا خدَمتُه) .
3- عن أبي سَلَمةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: (أنَّه أخَذ برِكابِ زَيدِ بنِ ثابِتٍ، فقال له: تَنَحَّ يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّا هكذا نفعَلُ بكُبَرائِنا وعُلَمائِنا) .
وعن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: (لمَّا قُبِض رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت الأنصارُ: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ. فأتاهم عُمَرُ فقال: ألستُم تعلَمونَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَر أبا بكرٍ أن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقَدَّمَ أبا بكرٍ؟ قالوا نعوذُ باللَّهِ أن نتقَدَّمَ أبا بكرٍ) .
- وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (لمَّا قُبِض رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلتُ لرجُلٍ من الأنصارِ: هَلُمَّ فلْنَسألْ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّهم اليومَ كثيرٌ، فقال: واعجَبًا لك يا ابنَ عبَّاسٍ! أترى النَّاسَ يفتَقِرون إليك وفي النَّاسِ مِن أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن فيهم؟! قال: فتركتُ ذاك وأقبلتُ أسألُ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان يبلُغُني الحديثُ عن الرَّجُلِ فآتي بابَه وهو قائِلٌ فأتوسَّدُ ردائي على بابِه يَسفي الرِّيحُ عَلَيَّ من التَّرابِ، فيخرُجُ فيراني فيقولُ: يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما جاءَ بك؟ هلَّا أرسَلْتَ إليَّ فآتيَك؟ فأقول: لا، أنا أحَقُّ أن آتيَك، قال: فأسألُه عن الحديثِ، فعاش هذا الرَّجُلُ الأنصاريُّ حتَّى رآني وقد اجتمَع النَّاسُ حولي يسألوني، فيقولُ: هذا الفتى كان أعقَلَ منِّي!) .
توقيرُ أمِّ الدَّرداءِ لزَوجِها:
- عن أمِّ الدَّرداءِ قالت: حدَّثني سَيِّدي أنَّه سَمِع رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن دعا لأخيه بظَهرِ الغَيبِ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) .
قال القاضي عِياضٌ: (وقولُ أمِّ الدَّرداءِ: حدَّثني سيِّدي أنَّه سمع رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يعنى أبا الدَّرداءِ. فيه جوازُ دعوى المرأةِ زَوجَها سيِّدي، وتعظيمُ المرأةِ زوجَها وتوقيرُه) .
وقالت امرأةُ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: (ما كُنَّا نُكَلِّمُ أزواجَنا إلَّا كما تُكَلِّمون أمراءَكم: أصلحَك اللَّهُ، عافاك اللَّهُ) .

د- نماذِجُ من الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ السَّلَفِ
توقيرُ العُلَماءِ:
1- ضَرَب السَّلَفُ الصَّالحُ أروَعَ النَّماذِجِ في توقيرِ العُلَماءِ وإجلالِهم، ومن ذلك ما رواه إدريسُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: (قال لي سَلَمةُ بنُ عاصِمٍ: أريدُ أن أسمعَ كِتابَ العَدَدِ من خَلَفٍ، فقلتُ لخَلَفٍ: قال: فليَجِئْ، فلمَّا دخل رفعَه لأن يجلِسَ في الصَّدرِ، فأبى، وقال: لا أجلِسُ إلَّا بَيْنَ يدَيك، وقال: هذا حَقُّ التَّعليمِ، فقال له خَلَفٌ: جاءني أحمدُ بنُ حنبَلٍ يسمَعُ حديثَ أبي عَوانةَ، فاجتهَدْتُ أن أرفَعَه، فأبى وقال: لا أجلِسُ إلَّا بَيْنَ يديك، أُمِرْنا أن نتواضَعَ لِمن نتعَلَّمُ منه) ، وهكذا كان العُلَماءُ يُوَقِّرُ بعضُهم بعضًا ويُظهِرون هذا التَّبجيلَ والاحترامَ أمامَ النَّاسِ وأمامَ الطُّلَّابِ؛ ليتعَلَّموا ويأخُذوا منهم القُدوةَ.
2- عن عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ قال: (رأيتُ أبي إذا جاء الشَّيخُ والحَدَثُ من قُرَيشٍ أو غيرُهم من الأشرافِ، لم يخرُجْ من بابِ المسجِدِ حتَّى يخرِجَهم، فيكونوا هم يتقَدَّمونه، ثمَّ يخرُجُ مِن بَعدِهم) ، وقال المَرُّوذيُّ: (رأيتُه جاء إليه مولى ابنِ المبارَكِ، فألقى له مخدَّةً وأكرمَه، وكان إذا دخَل عليه مَن يَكرُمُ عليه يأخُذُ المخدَّةَ من تحتِه فيُلقيها له). وقال: (وكان أبو عبدِ اللَّهِ من أشَدِّ النَّاسِ إعظامًا لإخوانِه ومن هو أسَنُّ منه، لقد جاءه أبو همَّامٍ راكبًا على حمارٍ، فأخَذ له أبو عبدِ اللَّهِ بالرِّكابِ! ورأيتُه فَعَل هذا بمن هو أسَنُّ من الشُّيوخِ) .
3- روى معاذُ بنُ سعيدٍ، قال: (كنَّا عِندَ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، فتحدَّث رجُلٌ بحديثٍ فاعترَضَ له آخَرُ في حديثِه، فقال عطاءٌ: سُبحانَ اللَّهِ! ما هذه الأخلاقُ؟ ما هذه الأحلامُ؟ إنِّي لأسمعُ الحديثَ مِن الرَّجُلِ وأنا أعلَمُ منه، فأُريهم من نفسي أنِّي لا أحسِنُ منه شيئًا!) ، فينبغي أن يسودَ الاحترامُ بَيْنَ السَّامِعِ والمستمَعِ، فلا يقاطِعَ حديثَه ولا يعارِضَه حتَّى ينتهيَ من كلامِه.
- وعن هِشامِ بنِ سُلَيمانَ المخزوميِّ: أنَّ عَليَّ بنَ عبدِ اللَّهِ بنِ العَبَّاسِ: (كان إذا قَدِم حاجًّا مكَّةَ أو معتَمِرًا عطَّلَت قُرَيشٌ مجالِسَها في المسجِدِ الحرامِ، وهجَرَت مواضِعَ حِلَقِها، ولزِمَت مجلِسَ عليِّ بنِ عبدِ اللَّهِ إعظامًا وإجلالًا وتبجيلًا، فإن قَعَد قَعَدوا، وإن نَهَض نَهَضوا، وإن مشى مشَوا جميعًا حولَه، وكان لا يُرى لقُرشيٍّ في المسجِدِ الحرامِ مجلِسُ ذِكرٍ يُجتَمَعُ إليه حتَّى يخرُجَ عليُّ بنُ عبدِ اللَّهِ مِن الحَرَمِ) .
- وعن بِشرِ بنِ الحارِثِ قال: (سأل رجُلٌ ابنَ المبارَكِ عن حديثٍ وهو يمشي، قال: ليس هذا من توقيرِ العِلمِ) قال بِشرٌ: فاستحسَنْتُه جِدًّا .
- وقال الرَّبيعُ صاحِبُ الشَّافعيِّ: (ما اجتَرَأتُ أن أشرَبَ الماءَ والشَّافعيُّ ينظُرُ إليَّ؛ هَيبةً له!) .
- وعن ابنِ عَرْعَرةَ قال: (كان طاهِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ ببغدادَ، فطَمِع في أن يسمَعَ من أبي عُبَيدٍ، وطَمِع أن يأتيَه في منزِلِه، فلم يفعَلْ أبو عُبَيدٍ حتَّى كان هذا يأتيه، فقَدِم عليُّ بنُ المَدينيِّ وعبَّاسٌ العَنْبَريُّ، فأرادا أن يسمعا غَريبَ الحديثِ، فكان يحمِلُ كُلَّ يومٍ كتابَه ويأتيهما في منزلِهما فيُحَدِّثُهما فيه) .
قال الخطيبُ البغداديُّ مُعَلِّقًا: (إنَّما امتنع أبو عُبَيدٍ مِن المضيِّ إلى منزِلِ طاهِرٍ توقيرًا للعِلمِ، ومضى إلى مَنزِلِ ابنِ المدينيِّ وعَبَّاسٍ تواضُعًا وتدَيُّنًا، ولا وَكَفَ عليه في ذلك، إذ كانا من أهلِ الفَضلِ والمنزلةِ العاليةِ في العِلمِ، وقد فَعَل سُفيانُ الثَّوريُّ مع إبراهيمَ بنِ أدهَمَ مِثلَ هذا) .
- وعن مالكٍ (أنَّ رَجُلًا جاء إلى سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وهو مريضٌ، فسأله عن حديثٍ وهو مضطَجِعٌ، فجلس فحَدَّثه، فقال له الرَّجُلُ: وَدِدتُ أنَّك لم تتعَنَّ، فقال: إنِّي كَرِهتُ أن أحَدِّثَك عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا مُضطَجِعٌ) .
- وعن محمَّدِ بنِ رافعٍ قال: (كنتُ مع أحمَدَ وإسحاقَ عِندَ عبدِ الرَّزَّاقِ، فجاءنا يومَ الفِطرِ، فخرَجْنا مع عبدِ الرَّزَّاقِ إلى المصلَّى، ومعنا ناسٌ كثيرٌ، فلمَّا رجَعْنا دعانا عبدُ الرَّزَّاقِ إلى الغَداءِ، ثمَّ قال لأحمدَ وإسحاقَ: رأيتُ اليومَ منكما عَجَبًا، لم تُكَبِّرَا! فقال أحمَدُ وإسحاقُ: يا أبا بكرٍ، كُنَّا ننتَظِرُ هل تُكَبِّرُ، فنُكَبِّرَ، فلمَّا رأيناك لم تُكَبِّرْ، أمسَكْنا! قال: وأنا كنتُ أنظُرُ إليكما، هل تُكَبِّرانِ، فأكَبِّرَ!) .
- وقال محمَّدُ بنُ حمدونَ بنِ رُستُمَ: سَمِعتُ مُسلِمَ بنَ الحَجَّاجِ وجاء إلى البخاريِّ فقال: (دعْني أقبِّلْ رِجليك يا أستاذَ الأُستاذينَ، وسَيِّدَ المحَدِّثين، وطبيبَ الحديثِ في عِلَلِه) .
- وعن عاصِمٍ، قال الكِسائيُّ: (صلَّيتُ بالرَّشيدِ، فأخطأتُ في آيةٍ ما أخطَأَ فيها صبيٌّ، قلتُ: لعَلَّهم يَرجِعينَ! فواللَّهِ ما اجترأ الرَّشيدُ أن يقولَ: أخطَأْتَ، لكِنْ قال: أيُّ لغةٍ هذه؟ قلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين! قد يَعثُرُ الجوادُ، قال: أمَّا هذا فنَعَمْ) .
- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ حَرمَلةَ، قال: (ما كان إنسانٌ يجترئُ على سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ يسألُه عن شيءٍ حتَّى يستأذنَه كما يستأذِنُ الأميرَ) .
- وقال ابنُ عساكِرَ: (كان العَبدريُّ أحفَظَ شَيخٍ لقيتُه، وكان فقيهًا داوديًّا، ذُكِر أنَّه دخَل دِمَشقَ في حياةِ أبي القاسمِ بنِ أبي العلاءِ، وسمِعتُه وقد ذُكِر مالكٌ، فقال: جِلفٌ جافٍ! ضَرَب هِشامَ بنَ عَمَّارٍ بالدِّرَّةِ، وقرأتُ عليه «الأموالَ» لأبي عُبَيدٍ، فقال -وقد مَرَّ قولٌ لأبي عُبَيدٍ-: ما كان إلَّا حمارًا مُغَفَّلًا لا يَعرِفُ الفِقهَ! وقيل لي عنه: إنَّه قال في إبراهيمَ النَّخَعيِّ: أعوَرُ سُوءٍ!
فاجتمَعْنا يومًا عِندَ ابنِ السَّمَرْقَنديِّ في قراءةِ كتاب «الكامِل»، فجاء فيه: وقال السَّعديُّ كذا، فقال: يَكذِبُ ابنُ عَديٍّ، إنَّما ذا قولُ إبراهيمَ الجَوْزَجانيِّ! فقُلتُ له: فهو السَّعديُّ، فإلى كم نحتَمِلُ منك سوءَ الأدَبِ، تقولُ في إبراهيمَ كذا وكذا، وتقولُ في مالكٍ: جافٍ، وتقولُ في أبي عُبَيدٍ؟!
فغَضِب وأخذَتْه الرِّعدةُ، وقال: كان ابنُ الخاضِبةِ والبَردانيُّ وغيرُهما يخافوني، فآل الأمرُ إلى أن تقولَ فيَّ هذا؟!
فقال له ابنُ السَّمَرْقَنديِّ: هذا بذاك.
فقُلتُ: إنَّما نحتَرِمُك ما احتَرَمْتَ الأئمَّةَ) .
- وقال أبو بكرٍ الأثرَمُ: أخبَرَني عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ -شيخٌ سَمِع منه قديمًا، وليس بالخُراسانيِّ- قال: كنتُ عِندَ إسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، فتكَلَّم إنسانٌ فضَحِك بعضُنا، وثَمَّ أحمدُ بنُ حنبَلٍ، قال: فأتينا إسماعيلَ فوجَدْناه غَضبانَ، فقال: أتضحَكونَ وعندي أحمدُ بنُ حنبَلٍ ؟!

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:27 PM
تابع – الاحترام والتوقير

نماذج من الاحترام والتوقير
هـ- نماذِجُ من الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ العُلَماءِ المتقَدِّمينَ
- توقيرُ أبي عبدِ اللَّهِ الحاكِمِ مِن عُلَماءِ عَصرِه:
فقد كان عُلَماءُ عَصرِه يُبَجِّلونه ويُقَدِّرونَه؛ قال بعضُهم: (سمِعتُ مشايخَنا يذكُرون أيَّامَه، ويحكون أنَّ مُقَدَّمي عَصرِه، مِثلُ أبي سَهلٍ الصُّعلوكيِّ، والإمامِ ابنِ فُورَكٍ، وسائِرَ الأئمَّةِ، يُقَدِّمونه على أنفسِهم، ويراعون حَقَّ فَضلِه، ويَعرِفون له الحُرمةَ الأكيدةَ) .
- توقيرُ أبي نُعَيمٍ الأصبهانيِّ لابنِ مَنْدَهْ:
فقد كانت بينَه وبينَ ابنِ مَنْدَهْ وَحشةٌ شديدةٌ، فلم يمنَعْه ذلك من توقيرِه واحترامِه وإنزالِه منزلتَه اللَّائقةَ به.
قال الذَّهبيُّ: (قيل: إنَّ أبا نُعَيمٍ الحافِظَ ذُكِر له ابنُ مَنْدَهْ، فقال: كان جبَلًا من الجِبالِ، فهذا يقولُه أبو نُعيمٍ مع الوَحشةِ الشَّديدةِ التي بينه وبينَه!) .
- توقيرُ الخُلَفاءِ لأبي الحَسَنِ الماوَرْديِّ:
قال ابنُ تَغْرِي بَرْدي: (وَلِيَ القضاءَ ببُلدانٍ كثيرةٍ، وكان محتَرَمًا عِندَ الخُلَفاءِ والملوكِ) .
- توقيرُ زكي الدِّينِ المُنذِريِّ للعِزِّ بنِ عبدِ السَّلامِ:
قال السُّيوطيُّ في كلامِه عن العِزِّ بنِ عبدِ السَّلامِ: (قَدِم مِصرَ فأقام بها أكثَرَ من عشرين سنةً ناشِرًا العِلمَ، آمِرًا بالمعروفِ، ناهيًا للمُنكَرِ، يُغلِظُ على الملوكِ فمَن دونَهم، ولمَّا دخل مصرَ بالغ الشَّيخُ زكي الدِّينِ المنذِريُّ في الأدَبِ معه، وامتنع من الإفتاءِ لأجْلِه، وقال: كنَّا نُفتي قبلَ حُضورِه، وأمَّا بعدَ حُضورِه فمَنصِبُ الفُتيا مُتعَيَّنٌ فيه) .

و- نماذِجُ من الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ العُلَماءِ المُعاصِرين
- توقيرُ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ آل الشَّيخِ واحترامُه لمشايخِه:
يقولُ حمَدُ الفَهدُ: (كان يقولُ عن شيخِه الشَّيخِ سَعدِ بنِ عتيقٍ: شَيخُنا الشَّيخُ الكبيرُ والعالمُ الشَّهيرُ، وكان إذا أتاه الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ مانعٍ، قام له ورحَّب به وأجلسه مكانَه، ومن ذلك أنَّه كان يحِبُّ الشَّيخَ عبدَ اللَّهِ القرعاويَّ رحمه اللَّهُ -الدَّاعيةَ في جيزانَ- ويُقَدِّرُه، فكان إذا أتى إليه يُكرِمُه كثيرًا، ومن ذلك أنَّه كان يحِبُّ الشَّيخَ حمود التَّويجريُّ رحمه اللَّهُ، وقد رأيتُ الشَّيخَ حمود مرَّةً أتى إلى الشَّيخِ محمَّد يقرأُ عليه أحدَ رُدودِه التي ألَّفها ضِدَّ بعضِ المبتَدِعةِ، فلمَّا نهض الشَّيخُ حمود وانصرف، قال الشَّيخُ محمد: الشَّيخُ حمود مجاهِدٌ جزاه اللَّهُ خيرًا. ومن ذلك أنَّه كان يحِبُّ الشَّيخَ أحمد شاكر، والشَّيخ محمَّد حامِد الفِقي رحمهما اللَّهُ تعالى، وقد رأيتُهما عنده كثيرًا إذا أتيا إلى المملكةِ، وكان يُكرِمُهما ويُجِلُّهما. ومن ذلك احترامُه وتقديرُه أيضًا للشَّيخِ محمَّد الأمين الشِّنقيطيِّ صاحِبِ أضواءِ البيانِ، والشَّيخِ محمَّد المختار الشِّنقيطيِّ) .
- توقيرُ محمَّد الأمين الشِّنقيطيِّ واحترامُه للألبانيِّ:
(كان الشَّيخُ محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ -الذي ما عُلِم مِثلُه في عصرِه في عِلمِ التَّفسيرِ واللُّغةِ- يجِلُّ الشَّيخَ الألبانيَّ إجلالًا غريبًا، حتى إذا رآه مارًّا وهو في دَرسِه في الحَرَمِ المدَنيِّ، يَقطَعُ درسَه قائمًا ومُسلِّمًا عليه إجلالًا له) .
- توقيرُ عبدِ الرَّزَّاقِ عفيفي واحترامُه لابنِ بازٍ:
يقولُ حَمَدُ بنُ إبراهيمَ: (أذكُرُ أنَّني زُرتُه في مخيَّمِه بمِنًى أيَّامِ الحجِّ عام 1403هـ، وقلتُ لأصحابي المرافِقين معي: ستَرَون الشَّيخَ عبدَ الرَّزَّاقِ وهو يبكي. وكانوا يتعجَّبون ممَّا أقولُ، وكنتُ أريدُ لَفتَ انتباهِهم إلى هذا الموقِفِ العظيمِ وحَفزِهم إلى التَّطلُّعِ إليه، فلمَّا سَلَّمْنا عليه يومَ النَّحرِ، قُلتُ له: يا شَيخُ، كيفكم وكيف الشَّيخُ عبدُ العزيزِ؟ فقال: بخيرٍ وللهِ الحمدُ، والشَّيخُ عبدُ العزيزِ لا يُسأَلُ عنه، ما شاء اللَّهُ، ثمَّ أخَذ في الثَّناءِ عليه حتَّى تحدَّرت دموعُه رغمَ شِدَّتِه وقُوَّتِه، وهو يقولُ: ابنُ بازٍ طِرازٌ غيرُ عُلَماءِ هذا الزَّمانِ، ابنُ بازٍ من بقايا العُلَماءِ الأوَّلينَ القُدامى، في عِلمِه وأخلاقِه ونشاطِه ... ثمَّ قطَعَ كلامَه بعَبرةٍ خَنقَتْه عن الإتمامِ!) .
- توقيرُ العُلَماءِ وطَلَبةِ العِلمِ لعبدِ الرَّزَّاقِ عفيفي:
(لقد كان العُلَماءُ والعامَّةُ وطَلَبةُ العِلمِ يُقبِلون على مجلِسِ الشَّيخِ، ويَستَمِعون إلى نصائِحِه القيِّمةِ وتوجيهاتِه السَّديدةِ وآرائِه النَّيِّرِة، مع توقيرِهم لشَخصِه وتقديرِهم لعِلمِه، مع محبَّةٍ صادقةٍ خالِصةٍ يُرجى بها وَجهُ اللَّهِ لعالِمٍ بذَل عِلمَه ووقتَه ومالَه دفاعًا عن دينِه، وذَبًّا عن عقيدتِه، وغَيرةً على مجتَمَعِه وأمَّتِه) .

( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:28 PM
تابع – الاحترام والتوقير

أخطاءٌ شائعةٌ حولَ الاحترامِ والتَّوقيرِ
1- وجوبُ احترامِ جميعِ الأديانِ والأفكارِ والمعتَقَداتِ، وأنَّ ذلك نوعٌ من إظهارِ السَّماحةِ، وهذا اعتقادٌ خَطَأٌ، فلا يحِلُّ لمُسلِمٍ أن يحتَرِمَ الأديانَ الباطلةَ، ولا المِلَلَ المنحَرِفةَ، ولا الأفكارَ الخبيثةَ الرَّاميةَ لتضليلِ النَّاسِ وغِوايتِهم، وكذا لا يجِبُ على المُسلِمِ احترامُ الكافِرِ لكُفرِه، أو المبتَدِعَ في بدعتِه، أو الفاسِقَ في فِسقِه، بل الواجِبُ على المُسلِمِ الاستخفافُ بكُفرِ الكافِرِ وبدعةِ المبتَدِعِ وفِسقِ الفاسِقِ، وكذلك الاستخفافُ بالأديانِ الباطِلةِ والمِلَلِ المنحَرِفةِ، وعَدَمُ احترامِها، واعتقادُ ذلك بَيْنَ المُسلِمين أفرادًا وجماعاتٍ إذا عَلِم تحريفَها، وهذا من الدِّينِ؛ لأنَّه استخفافٌ بكُفرٍ أو بباطِلٍ .
2- الغُلُوُّ في احترامِ العُلَماءِ والمبالغةُ في إطرائِهم، بحيثُ يَغلِبُ على الظَّنِّ عِصمةُ آرائِهم وصِحَّةُ أقوالِهم مُطلَقًا، والتَّعصُّبُ لتلك الآراءِ والمذاهِبِ والدِّفاعُ عنها اعتقادًا أنَّ ذلك من احترامِهم وتوقيرِهم، وكُلُّ ذلك خطَأٌ، بل إنَّ من احترامِ العُلَماءِ نُصحَهم في الدِّينِ بعِلمٍ وحِكمةٍ والاعتقادَ بجوازِ الخَطَأِ منهم، ومخالفتَهم إن تُيُقِّنَ خَطؤُهم.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الواجِبُ أن يُقَدِّمَ مَن قَدَّمه اللَّهُ ورسولُه، ويؤخِّرَ مَن أخَّره اللَّهُ ورسولُه، ويحِبَّ ما أحبَّه اللَّهُ ورسولُه، ويُبغِضَ ما أبغضَه اللَّهُ ورسولُه، وينهى عمَّا نهى اللَّهُ عنه ورسولُه، وأن يرضى بما رَضِيَ اللَّهُ به ورسولُه، وأن يكونَ المُسلِمون يدًا واحدةً، فكيف إذا بلَغ الأمرُ ببعضِ النَّاسِ إلى أن يُضَلِّلَ غيرَه ويُكَفِّرَه، وقد يكونُ الصَّوابُ معه وهو الموافِقُ للكتابِ والسُّنَّةِ!) .
وقال الزُّرقانيُّ: (اعلَمْ أنَّ هناك أفرادًا بل أقوامًا تعَصَّبوا لآرائِهم ومذاهِبِهم، وزعَموا أنَّ مَن خالَف هذه الآراءَ والمذاهِبَ كان مبتَدِعًا متَّبِعًا لهواه، ولو كان متأوِّلًا تأويلًا سائغًا يتَّسِعُ له الدَّليلُ والبرهانُ، كأنَّ رأيَهم ومذهَبَهم هو المقياسُ والميزانُ، أو كأنَّه الكتابُ والسُّنَّةُ والإسلامُ، وهكذا استزَلَّهم الشَّيطانُ وأعماهم الغُرورُ) .

مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ
ميزانُ الشَّرعِ هو معيارُ الاحترامِ والتَّوقيرِ.
إنَّ الميزانَ عِندَ اللَّهِ سُبحانَه يختَلِفُ عن موازينِ النَّاسِ؛ فكثيرًا ما يقيسُ النَّاسُ بعضُهم بعضًا بموازينِ الدُّنيا من الجاهِ والمالِ والسُّلطانِ، حتَّى قيل في المثَلِ: (إنَّ الرِّقِينَ تُغَطِّي أَفْنَ الأفينِ . والمعنى أنَّ التَّوقيرَ والإجلالَ يُكتَسَبُ بوِجدانِ المالِ؛ فإنَّ المالَ يُحَلِّي المرءَ بحِليةِ الكَمالِ، ويَستُرُ ما فيه من ذميمِ الخِصالِ، ويُحَبِّبُه إلى قلوبِ الرِّجالِ، حتَّى يَرَوه بعينِ التَّوقيرِ والإجلالِ، وإن كان من أحمَقِ الحمقى وأجهَلِ الجُهَّالِ .
أمَّا الميزانُ عِندَ اللَّهِ سُبحانَه فهو بتحقيقِ العبدِ للتَّقوى وقُربِه مِن رَبِّه. قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] .
وعن سَهلٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: مرَّ رَجُلٌ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((ما تقولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شَفَع أن يُشفَعَ، وإن قال أن يُستَمَعَ، قال: ثمَّ سَكَت، فمَرَّ رجُلٌ من فقراءِ المُسلِمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حَريٌّ إن خَطَب ألَّا يُنكَحَ، وإن شَفَع ألَّا يُشفَعَ، وإن قال ألَّا يُستَمَعَ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا خيرٌ مِن مِلءِ الأرضِ مِثلَ هذا!)) .
احترامُ غيرِ المُسلِمينَ:
قال اللَّه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8] ، أي: لا ينهاكم اللَّهُ -أيُّها المُؤمِنون- عن الكافِرين الذين لم يقاتِلوكم من أجْلِ دينِكم من أقارِبِكم وغَيرِهم من الكُفَّارِ، ولم يُخرِجوكم من بلادِكم كما أخرجَكم كُفَّارُ مكَّةَ؛ أن تحسِنوا إليهم وتُكرِموهم، وتعدِلوا في تعامُلِكم معهم عدلًا تامًّا .
قال القَرافيُّ: (وأمَّا ما أمَر به من بِرِّهم ومن غيرِ مودَّةٍ باطنيَّةٍ، فالرِّفقُ بضعيفِهم، وسَدِّ خَلَّةِ فقيرِهم، وإطعامِ جائِعِهم، وإكساءِ عاريهم، ولِينِ القَولِ لهم -على سبيلِ اللُّطفِ لهم والرَّحمةِ لا على سبيلِ الخَوفِ والذِّلَّةِ- واحتمالِ إذايتِهم في الجوارِ مع القُدرةِ على إزالتِه -لُطفًا منَّا بهم لا خوفًا وتعظيمًا- والدُّعاءِ لهم بالهدايةِ وأن يُجعَلوا من أهلِ السَّعادةِ، ونصيحتِهم في جميعِ أمورِهم في دينِهم ودُنياهم، وحِفظِ غَيبتِهم إذا تعرَّض أحدٌ لأذيَّتِهم، وصَونِ أموالِهم وعيالِهم وأعراضِهم وجميعِ حُقوقِهم ومصالِحِهم، وأن يُعانوا على دَفعِ الظُّلمِ عنهم وإيصالِهم لجميِع حقوقِهم، وكُلِّ خيرٍ يَحسُنُ من الأعلى مع الأسفَلِ أن يفعَلَه، ومن العَدُوِّ أن يفعَلَه مع عَدُوِّه؛ فإن ذلك من مكارِمِ الأخلاقِ، فجَميعُ ما نفعَلُه معهم من ذلك ينبغي أن يكونَ من هذا القبيلِ لا على وَجهِ العِزَّةِ والجلالةِ مِنَّا، ولا على وجهِ التَّعظيمِ لهم وتحقيرِ أنفُسِنا بذلك الصَّنيعِ لهم... نعامِلُهم ... بما تقدَّم ذِكرُه امتثالًا لأمرِ رَبِّنا عزَّ وجَلَّ، وأمرِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا محبَّةً فيهم ولا تعظيمًا لهم) .
بعضُ الأمورِ التي لا تتنافى مع الاحترامِ:
- إن استأذَنَ أحدٌ من أهلِ البُيوتِ في دُخولِ بُيوتِهم، فلم يأذَنوا، وقالوا له: انصَرِفْ، فلينصَرِفْ بلا غَضَبٍ، ومِثلُ هذا لا يتنافى مع الاحترامِ؛ فاللَّهُ تعالى يقولُ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور: 28] قال السَّعديُّ: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: فلا تمتَنِعوا من الرُّجوعِ، ولا تغضَبوا منه؛ فإنَّ صاحِبَ المنزِلِ لم يمنَعْكم حقًّا واجبًا لكم، وإنَّما هو مُتبرِّعٌ، فإن شاء أذِن أو مَنَع، فأنتم لا يأخُذْ أحَدَكم الكِبرُ والاشمئزازُ من هذه الحالِ) .
- إن أُذِن للصَّغيرِ أن يتكَلَّمَ بحَضرةِ الكبيرِ بعِلمٍ، فلا يتنافى هذا مع احترامِ الكبيرِ وتوقيرِه؛ فعن ابنِ عباس، رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: (كان عُمَرُ يدخِلُني مع أشياخِ بَدرٍ، فكأنَّ بعضَهم وجَدَ في نفسِه، فقال: لمَ تُدخِلُ هذا معنا ولنا أبناءٌ مِثلُه؟! فقال عُمَرُ: إنَّه من حيثُ عَلِمْتُم، فدعا ذاتَ ليلةٍ فأدخله معهم، فما رُئِيتُ أنَّه دعاني يومَئذٍ إلَّا ليُريَهم، قال: ما تقولون في قَولِ اللهِ تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] ؟ فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونستغفِرَه إذا نُصِرْنا وفُتِحَ علينا. وسكت بعضُهم فلم يقُلْ شيئًا، فقال لي: أكذاك تقولُ يا ابنَ عبَّاسٍ؟ فقُلتُ: لا، قال: فما تقولُ؟ قُلتُ: هو أجَلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمَه له، قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فتحُ مَكَّةَ، وذلك علامةُ أجَلِك؛ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3] فقال عُمَرُ: ما أعلَمُ منها إلَّا ما تقولُ) .


( يتبع )

البراء الحريري
05-02-2025, 09:29 PM
تابع – الاحترام والتوقير

الاحترام والتوقير في واحة الأدب
أ- مِنَ الشِّعرِ

1- قال ابنُ الرُّوميِّ:
أصبَحتُ شَيخًا له سَمتٌ وأُبَّهة
يدعونَني البِيضُ عَمًّا تارةً وأَبَا
وتلك دعوةُ إجلالٍ وتَكرِمةٍ
ودِدْتُ أنِّي مُعتاضٌ بها لَقَبَا
2- وقال الشَّافِعيُّ في توقيرِ النَّاسِ واحترامِهم عِندَ الخَطَأِ:
تَعمَّدْني بنُصحِك في انفِرادي
وجَنِّبْني النَّصيحةَ في الجَماعَه
فإنَّ النُّصحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوعٌ
من التَّوبيخِ لا أرضى استِماعَه
وإن خالَفْتَني وعَصَيتَ أمري
فلا تجزَعْ إذا لم تُعْطَ طاعَه
3- وقيلَ في ضرورةِ توقيرِ العُلَماءِ وإكرامِهم:
إنَّ المُعَلِّمَ والطَّبيبَ كِلاهما
لا ينصَحانِ إذا هما لم يُكرَمَا
فاصبِرْ لدائِك إنْ أهَنْتَ طبيبَه
واصبِرْ لجَهلِك إن جَفَوتَ مُعَلِّمَا
4- وقال أحمد شوقي في توقيرِ المُعَلِّمِ:
قُمْ للمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبجيلا
كاد المُعَلِّمُ أن يكونَ رَسولَا
أعلِمْتَ أشرَفَ أو أجَلَّ مِن الذي
يَبني ويُنشِئُ أنفُسًا وعُقولَا
سبحانَك اللَّهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ
عَلَّمْتَ بالقَلَمِ القُرونَ الأُولى
أخرَجْتَ هذا العَقلَ من ظُلُماتِهِ
وهدَيْتَه النُّورَ المُبِينَ سَبيلَا
وطبَعْتَه بيَدِ المُعَلِّمِ تارةً
صَدِئَ الحديدِ وتارةً مَصقولَا
5- وقال الشَّاعِرُ:
قومٌ سجاياهم توقيرُ ضَيفِهِم
والشَّيبُ ضَيفٌ له التَّوقيرُ يا صاحِ
- وقال الشَّاعِرُ في توقيرِ واحترامِ أستاذِه:
أُفَضِّلُ أستاذي على فَضلِ والِدِي
وإن نالني مِن والِدي المجدُ والشَّرَفُ
فهذا مُرَبِّي الرُّوحِ والرُّوحُ جَوهَرٌ
وذاك مُرَبِّي الجِسمِ والجِسمُ كالصَّدَفِ
6- وقال جميلٌ الزَّهاويُّ:
أقولُ للنَّفسِ كُفِّي
عن السَّفاهةِ كُفِّي
إذا أردتِ احترامًا
من الجميعِ فعِفِّي

ب- من الأمثالِ والحِكَمِ
- أولى مَن تَبذُلُ له ثَراك من أفادك عُلاك وصَقَل حِجاك .
يُقالُ: في إجلالِ المعَلِّمِ والحَثِّ على تفَقُّدِه، فهو الذي أعلى قَدْرَ تلميذِه بما عَلَّمه .
- وَقِّرْ نَفْسَك تُهَبْ .
- ما هو إلَّا نارُ المجوسِ.
يُضرَبُ لِمن لا يَحتَرِمُ أحَدًا؛ لأنَّها تُحرِقُهم وإن كانوا يَعبُدونَها .

البراء الحريري
05-02-2025, 09:32 PM
موضوعنا القادم سيكون ان شاء الله عن ( الإحسان إلى الغير )

وسوف أتناول من خلاله المحاور التالية ان شاء الله

1- معنى الإحْسَان لغةً واصطلاحًا
2- الفرق بين الإحْسَان وبعض الصِّفات
3- الترغيب في الإحسان
4- أقوال السَّلف والعلماء في الإحسان
5- فوائد الإحْسَان
6- أقسام الإحْسَان
7- صور الإحْسَان
8- الأمثال في الإحْسَان
9- الإحْسَان في واحة الشِّعر

البراء الحريري
05-12-2025, 12:13 PM
الإحسان

الإحسان مستق من «الحُسن» الذي هو الجمال والبهاء لكل ما يصدر من العبد من خطرات ونبرات وتصرفات، وهو أعلى مقامات الرفعة الإنسانية والمفتاح السحري لكل أزماتها وجسر سعادتها الأبدية، وكفى الإحسان شرفا أن البشرية جمعاء اتفقت على حبه ومدحه وأجمعت على كره ضده من كافة صنوف الإساءة، ولذلك أولى الإسلام الإحسان عناية بالغة وجعله أسمى هدف تصبو إليه نفوس العابدين، وهو طريق الوصول لمحبة الله تعالى ومعيته ورحمته، بل ورؤيته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، في جنة الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

من أبلغ الأقوال في الإحسان قول من أوتي جوامع الكلم –صلى الله عليه وسلم-: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [البخاري ومسلم]
ففي هذه الكلمات النبوية الجامعة من مقتضيات المراقبة والخشية والإنابة والإتقان والإتباع وصفاء السريرة .. ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. فبين صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين، (أعلاهما) عبادة الله كأنك تراه، وهذا «مقام المشاهدة»، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه حيث يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، وهذا هو حقيقة مقام الإحسان. ولذلك لما خطب عروة إِلَى ابن عمر ابنته وهما في الطواف لم يجبه بشيء، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إِلَيْهِ، وقال: «كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا».[الحلية، أبو نعيم]

(الثاني): «مقام المراقبة» وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله تعالى وإرادته بالعمل، قال الحارث المحاسبي: «أوائل المراقبة علم القلب بقرب الرب»، وقال بعض السَّلف: «من عمل لله عَلَى المشاهدة فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص».

ويتفاوت أهل هذين المقامين بحسب نفوذ البصائر لذلك قال النووي –رحمه الله-: (وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين).
وقالوا أيضا في الإحسان: «فعل الخيرات على أكمل وجه». «تحسين الظاهر والباطن». «الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به». «امتلاء القلب بحقيقة الألوهية كأنه يشاهد الله عياناً». «مراعاة الخشوع والخضوع».
وبالجملة فالإحسان هو الذي خُلقنا من أجله، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].

والإحسان ذروة الأعمال، وهو أن تقدم الفعل من غير عوض سابق، بل يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، كما فعل يوسف الصديق عليه السلام {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف46-48] فعاملهم بالإحسان فلم يعبر لهم الرؤيا فقط بل أعطاهم الحل معه {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}.
بل إن الذي يستلفت النظر في قصة يوسف عليه السلام كثرة تكرار صفة الإحسان، فكان محسنا مع ربه ومع الناس –وهما متلازمان- فقد سمى الله قصته {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} [يوسف3] أي من أحسنه.
ورتب على الإحسان إيتاءه الحكم والعلم مع الشباب {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف22]
ووصفه السجناء بذلك {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف36]
وبه مكنه الله تعالى في الأرض {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف56]
وقال له إخوته وهم لا يعرفونه {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف78]
وقال عن نفسه وأخيه {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف90]
ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف100]
فلم يذهب إحسانه سدى، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن60] فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.
والإحسان خير مكانة يتبوأها العبد لأنه إن أساء وسعه بعده الإيمان ثم الإسلام، أما من يعيشون على الحد الأدنى للإسلام فهو مع النقص مهدد بكفر الاعتقاد أو كفر النعمة.
قال ابن تيمية: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا ..)، ثم قال: (وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين).
وخلق الإحسان يتسع ليشمل القول والعمل والعبادات والمعاملات .. فهو إكسير الحياة الذي يحيلها طيبة متآلفة، لذلك جعل الله تعالى رحمته ومحبته جائزة المحسنين {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف56]
كما أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [الترمذي]
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم** فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس26] الحُسْنَى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عياناً في الآخرة {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن60] وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم31]
إن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين. فهو طريقك وهدفك ومحل كدك ونصبك .. روى الطبراني عن أبي سلمة عن معاذ –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية» [حسن لغيره، الألباني]

من خلال حديثنا عن الاحسان سنتطرق الى المواضيع التالية :
1- معنى الإحْسَان لغةً واصطلاحًا
2- الفرق بين الإحْسَان وبعض الصِّفات
3- الترغيب في الإحسان
4- أقوال السَّلف والعلماء في الإحسان
5- فوائد الإحْسَان
6- أقسام الإحْسَان
7- صور الإحْسَان
8- الأمثال في الإحْسَان
9- الإحْسَان في واحة الشِّعر

( يتبع – الاحسان لغة واصطلاحا )

البراء الحريري
05-12-2025, 12:14 PM
تابع – الاحسان

معنى الإحْسَان لغةً:
الإحْسَان ضِدُّ الإساءة. مصدر أحسن أي جاء بفعل حسن
معنى الإحْسَان اصطلاحًا:
(الإحْسَان نوعان:
- إحسان في عبادة الخالق: بأن يعبد الله كأنَّه يراه فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه. وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
- وإحسانٌ في حقوق الخَلْق... هو بذل جميع المنافع مِن أي نوعٍ كان، لأي مخلوق يكون، ولكنَّه يتفاوت بتفاوت المحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك)
وقال الراغب: (الإحسان على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أو عمل عملًا حسنًا)

- الفرق بين الإحْسَان والإنْعَام:
(أَنَّ الإحْسَان يكون لنفس الإنسان ولغيره، تقول: أَحْسَنْتُ إلى نفسي. والإنْعَام لا يكون إلَّا لغيره)
- الفرق بين الإحْسَان والإفضَال:
( أنَّ الإحسان: النفع الحسن.
والإفْضَال: النَّفع الزَّائد على أقلِّ المقدار، وقد خُصَّ الإحْسَان بالفضل، ولم يجب مثل ذلك في الزِّيادة؛ لأنَّه جرى مجرى الصِّفة الغالبة)
- الفرق بين الإحْسَان والفضل:
(أنَّ الإحْسَان قد يكون واجبًا وغير واجب.
والفضل لا يكون واجبًا على أحد، وإنَّما هو ما يتفضَّل به مِن غير سبب يوجبه)

الترغيب في الإحسان
أولًا: الترغيب في الإحسان في القرآن الكريم

- قال سبحانه: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النَّحل:90]
قال السعدي: (الإحْسَان فضيلة مستحبٌّ، وذلك كنفع النَّاس بالمال والبدن والعِلْم، وغير ذلك مِن أنواع النَّفع حتى إنَّه يدخل فيه الإحْسَان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره)
- وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [البقرة: 83]
أي: (أحسنوا بالوالدين إحسانًا، وهذا يعمُّ كلَّ إحسان قولي وفعلي ممَّا هو إحسان إليهم، وفيه النَّهي عن الإساءة إلى الوالدين، أو عدم الإحْسَان والإساءة؛ لأنَّ الواجب الإحْسَان، والأمر بالشَّيء نهيٌ عن ضِدِّه.
وللإحْسَان ضِدَّان: الإساءة، وهي أعظم جرمًا، وترك الإحْسَان بدون إساءة، وهذا محرَّم، لكن لا يجب أن يلحق بالأوَّل، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى، والمساكين، وتفاصيل الإحْسَان لا تنحصر بالعَدِّ، بل تكون بالحَدِّ.
ثمَّ أمر بالإحْسَان إلى النَّاس عمومًا فقال: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً، ومِن القول الحَسَن: أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العِلْم، وبذل السَّلام، والبشاشة وغير ذلك مِن كلِّ كلام طيِّب.
ولـمَّا كان الإنسان لا يسع النَّاس بماله، أُمِر بأمرٍ يقدر به على الإحْسَان إلى كلِّ مخلوق، وهو الإحْسَان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النَّهي عن الكلام القبيح للنَّاس حتى للكفَّار)
- وقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]
قال الشَّوكاني في تفسير قوله: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ: (أي: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك مِن نعم الدُّنْيا)
- وقال عزَّ مِن قائل: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56]
قال ابن القيِّم: (وقوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] ، فيه تنبيه ظاهر على أنَّ فعل هذا المأمور به هو الإحْسَان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم مِن الله هو رحمته، ورحمته قريبٌ مِن المحسنين الذين فعلوا ما أُمِروا به مِن دعائه خوفًا وطمعًا، فَقَرُب مطلوبكم منكم، وهو الرَّحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم، وهو الإحْسَان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم؛ فإنَّ الله تعالى هو الغنيُّ الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ له دلالة بمنطوقه، ودلالة بإيمائه وتعليله، ودلالة بمفهومه، فدلالته بمنطوقه على قرب الرَّحمة مِن أهل الإحْسَان، ودلالته بتعليله وإيمائه على أنَّ هذا القُرْب مستحقٌّ بالإحْسَان، فهو السَّبب في قرب الرَّحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بُعْد الرَّحمة مِن غير المحسنين، فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة. وإنَّما اختُصَّ أهل الإحْسَان بقرب الرَّحمة منهم؛ لأنَّها إحسان مِن الله أرحم الرَّاحمين، وإحسانه تعالى إنَّما يكون لأهل الإحْسَان؛ لأنَّ الجزاء مِن جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأمَّا مَن لم يكن مِن أهل الإحْسَان فإنَّه لـمَّا بَعُد عن الإحْسَان بَعُدَت عنه الرَّحمة بُعْدًا بِبُعْد، وقُرْبًا بقرب، فمَن تقرَّب بالإحْسَان تقرَّب الله إليه برحمته، ومَن تباعد عن الإحْسَان تباعد الله عنه برحمته، والله -سبحانه- يحبُّ المحسنين، ويبغض مَن ليس مِن المحسنين، ومَن أحبَّه الله فرحمته أقرب شيء منه، ومَن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه، والإحْسَان- هاهنا-: هو فِعْل المأمور به سواءً كان إحسانًا إلى النَّاس أو إلى نفسه، فأعظم الإحْسَان: الإيمان والتَّوحيد، والإنابة إلى الله، والإقبال عليه، والتَّوكل عليه، وأن يعبد الله كأنَّه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً، فهذا هو مقام الإحْسَان، كما قال النَّبيُّ، وقد سأله جبريل عن الإحْسَان، فقال: ((أن تعبد الله كأنَّك تراه ))

ثانيًا: الترغيب في الإحسان في السُّنَّة النَّبويَّة

- عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَه، فليُرح ذبيحته ))
قال المباركفوري: (قوله: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) أي: إلى كلِّ شيء، أو ((على)) بمعنى: في، أي: أمركم بالإحْسَان في كلِّ شيء، والمراد منه العموم الشَّامل للإنسان حيًّا وميتًا. قال الطَّيبي: أي أوجب مبالغة؛ لأنَّ الإحْسَان هنا مستحبٌّ، وضمَّن الإحْسَان معنى التَّفضُّل وعدَّاه بعلى. والمراد بالتَّفضُّل: إراحة الذَّبيحة بتحديد الشَّفرة، وتعجيل إمرارها وغيره. وقال الشُّمُنِّيُّ: على- هنا- بمعنى اللام متعلِّقة بالإحْسَان، ولا بدَّ مِن على أخرى محذوفة بمعنى: الاستعلاء المجازي، متعلِّقة بكَتَبَ، والتَّقدير: كَتَبَ على النَّاس الإحْسَان لكلِّ شيء)
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهليَّة؟ قال: ((مَن أحسن في الإسلام لم يُؤاخذ بما عمل في الجاهليَّة، ومَن أساء في الإسلام أُخذ بالأوَّل والآخر ))
- وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ((أقبل رجلٌ إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر مِن الله. قال: فهل مِن والديك أحدٌ حيٌّ؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: أفتبتغي الأجر مِن الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ))
- وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص؛ قال: حدَّثني أبي، أنَّه شهد حجَّة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحمد الله وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ. فذكر في الحديث قصةً فقال: ((ألا واستوصوا بالنِّساء خيرًا، فإنَّما هنَّ عَوَان عندكم ليس تملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك، إلَّا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنَة، فإن فعلن فاهجروهنَّ في المضاجع، واضربوهنَّ ضربًا غير مُبَرِّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلًا. ألا إنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا. فأمَّا حقُّكم على نسائكم فلا يُوطِئْن فرشكم مَن تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقُّهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهنَّ في كسوتهنَّ وطعامهنَّ ))
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله صلى - الله عليه وسلم: ((كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا سمعت جيرانك يقولون: أن قد أحسنت فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت))

( يتبع )

البراء الحريري
05-12-2025, 12:14 PM
تابع – الاحسان

أقوال السَّلف والعلماء في الإحسان

- قال ابن عيينة: (سئل علي رضي الله عنه عن قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النَّحل: 90] ، فقال: العدل: الإنصاف، والإحْسَان: التفضُّل)
- وقرأ الحسن البصري: (هذه الآية إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النَّحل: 90] الآية، ثمَّ وقف فقال: إنَّ الله جمع لكم الخير كلَّه والشَّر كلَّه في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحْسَان شيئًا مِن طاعة الله عزَّ وجلَّ إلَّا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي مِن معصية الله شيئًا إلَّا جَمَعه)
- وقال ابن القيِّم: (مفتاح حصول الرَّحمة الإحْسَان في عبادة الخالق، والسَّعي في نفع عبيده)
- وقال أيضًا: (فإنَّ الإحْسَان يفرح القلب ويشرح الصَّدر ويجلب النِّعم ويدفع النِّقم، وتركه يوجب الضَّيم والضِّيق، ويمنع وصول النِّعم إليه، فالجبن: ترك الإحْسَان بالبدن، والبخل: ترك الإحْسَان بالمال)
- وقال في موضع آخر: (ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلة الإحْسَان؛ وهي لبُّ الإيمان وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعها منطوية فيها، وكلُّ ما قيل مِن أوَّل الكتاب إلى هاهنا فهو مِن الإحْسَان)
- وقال رجلٌ لأحد السلاطين: (أحقُّ النَّاس بالإحْسَان مَن أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف مَن بُسِطت القدرة بين يديه؛ فاسْتَدِم ما أوتيت مِن النِّعم بتأدية ما عليك مِن الحقِّ)

فوائد الإحْسَان

1- للإحْسَان ثمرة عظيمة تتجلَّى في تماسك بنيان المجتمع، وحمايته مِن الخراب والتَّهلكة ووقايته مِن الآفات الاجتماعيَّة.
2- المحسن يكون في معيَّة الله عزَّ وجلَّ، ومَن كان الله معه فإنَّه لا يخاف بأسًا ولا رهقًا.
3- المحسن يكتسب بإحسانه محبَّة الله عزَّ وجلَّ.
4- للمحسنين أجر عظيم في الآخرة حيث يكونون في مأمن مِن الخوف والحزن.
5- المحسن قريب مِن رحمة الله عزَّ وجلَّ.
6- الإحْسَان هو وسيلة المجتمع للرُّقي والتَّقدُّم، وإذا كان صنوه، أي: العدل وسيلة لحفظ النَّوع البَشَريِّ فإنَّ الإحْسَان هو وسيلة تقدمه ورقيِّه؛ لأنَّه يؤدِّي إلى توثيق الرَّوابط وتوفير التَّعاون.
7- الإحْسَان وسيلة لإزالة ما في النُّفوس مِن الكدر وسوء الفهم وسوء الظَّنِّ ونحو ذلك.
8- الإحْسَان في عبادة الخالق يمنع عن المعاصي.
قال ابن القيِّم: (فإنَّ الإحْسَان إذا باشر القلب منعه عن المعاصي، فإنَّ مَن عبد الله كأنَّه يراه، لم يكن كذلك إلَّا لاستيلاء ذكره ومحبَّته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مواقعتها، فإذا خرج مِن دائرة الإحْسَان، فاته صحبة رفقته الخاصَّة، وعيشهم الهنيء، ونعيمهم التَّام، فإن أراد الله به خيرًا أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين)
9- الإحْسَان إلى النَّاس سببٌ مِن أسباب انشراح الصَّدر:
الذي يحسن إلى النَّاس ينشرح صدره، ويشعر بالرَّاحة النَّفسيَّة، وقد ذكر ابن القيِّم في (زاد المعاد) أن الإحْسَان مِن أسباب انشراح الصَّدر، فقال: (... إنَّ الكريم المحسن أشرح النَّاس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق النَّاس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًّا وغمًّا)
10- الإحْسَان إلى النَّاس يطفئ نار الحاسد.
(إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحْسَان إليه، فكلَّما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً، وما أظنُّك تصدِّق بأنَّ هذا يكون، فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عزَّ وجلَّ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصِّلت: 34-36] وقال: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص: 54] .. هذا مع أنَّه لا بدَّ له مع عدوِّه وحاسده مِن إحدى حالتين، إمَّا أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذلُّ له، ويبقى مِن أحبِّ النَّاس إليه، وإمَّا أن يفتِّت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه، فإنَّه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومَن جرَّب هذا عرفه حقَّ المعرفة، والله هو الموفق المعين بيده الخير كلِّه لا إله غيره، وهو المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنِّه وكرمه)

أقسام الإحْسَان

الإحْسَان ينقسم إلى قسمين: إحسان في عبادة الله. وإحْسَان إلى عباد الله، وكل قسم منهما ينقسم إلى واجب ومستحب.
فأما الإحسان في عبادة الله فيتضمن الإحْسَان في الإتيان بالواجبات الظَّاهرة والباطنة، وذلك بــــ(الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القَدْر مِن الإحْسَان فيها واجبٌ، وأمَّا الإحْسَان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب.
والإحْسَان في ترك المحرَّمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] ، فهذا القدر مِن الإحْسَان فيها واجبٌ.
وأمَّا الإحْسَان في الصَّبر على المقدورات، فأن يأتي بالصَّبر عليها على وجهه مِن غير تسخُّط ولا جزع)
وأما الإحسان إلى عباد الله فالواجب منه (هو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك مِن الحقوق...بأن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك مِن الحقوق، كما أنَّك تأخذ مالك وافيًا. قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النِّساء: 36] فأمر بالإحْسَان إلى جميع هؤلاء)
وقال ابن رجب: (والإحْسَان الواجب في معاملة الخَلْق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله مِن حقوق ذلك كلِّه، والإحْسَان الواجب في ولاية الخَلْق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كلِّها)
وأما المستحب منه فهو (القَدْرُ الزَّائد على الواجب في ذلك كلِّه) ومثال ذلك (بذل نفع بدنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيويَّة، فكلُّ معروف صَدَقة، وكلُّ ما أدخل السُّرور على الخَلْق صَدَقة وإحسان. وكلُّ ما أزال عنهم ما يكرهون، ودفع عنهم ما لا يرتضون مِن قليل أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان)

(يتبع)

البراء الحريري
05-12-2025, 12:15 PM
تابع – الاحسان

صور الإحْسَان

قبل أن نُـفَصِّلَ في صور الإحْسَان نذكر هذه الصور على جهة الإجمال، والتي منها الإحسان في العبادات، والإحسان في المعاملات، والإحسان إلى الحيوانات، والإحسان في الأعمال البدنية، فـ(الإحْسَان في باب العبادات أن تؤدِّى العبادة أيًّا كان نوعها؛ مِن صلاة أو صيام أو حجٍّ أو غيرها أداءً صحيحًا، باستكمال شروطها وأركانها، واستيفاء سننها وآدابها، وهذا لا يتمُّ للعبد إلَّا إذا كان شعوره قويًّا بمراقبة الله عزَّ وجلَّ حتى كأنَّه يراه تعالى ويشاهده، أو على الأقلِّ يشعر نفسه بأنَّ الله تعالى مطَّلع عليه، وناظرٌ إليه، فبهذا وحده يمكنه أن يحسن عبادته ويتقنها، فيأتي بها على الوجه المطلوب، وهذا ما أرشد إليه الرَّسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإحْسَان أن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك ))
وفي باب المعاملات فهو للوالدين ببرِّهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكفِّ الأذى عنهما، والدُّعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما.
وهو للأقارب ببرِّهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يَجْمُل فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم.
وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم.
وهو للمساكين بسدِّ جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدرائهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النَّفع إليهم بما يستطيع، وهو لابن السَّبيل بقضاء حاجته، وسدِّ خلَّته، ورعاية ماله، وصيانة كرامته، وبإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضلَّ.
وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجفَّ عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق، وبصون كرامته، واحترام شخصيَّته.
وهو لعموم النَّاس بالتَّلطُّف في القول لهم، ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النَّفع إليهم، وكفِّ الأذى عنهم.
وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه ما لا يطيق، وحمله على ما لا يقدر، وبالرِّفق به إن عمل، وإراحته إن تعب.
وهو في الأعمال البدنيَّة بإجادة العمل، وإتقان الصَّنعة، وبتخليص سائر الأعمال مِن الغش، وهكذا) وإليك تفاصيل هذه الصُّور:
1- الإحْسَان في عبادة الله:
(والإحْسَان في عبادة الله له ركن واحد بيَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بأن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك )) فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مرتبة الإحْسَان على درجتين، وأنَّ المحسنين في الإحْسَان على درجتين متفاوتتين، الدَّرجة الأولى: وهي ((أن تعبد الله كأنَّك تراه)) الدَّرجة الثَّانية: أن تعبد الله لأنَّه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنَّك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثَّانية، وهي أن تعبد الله لأنَّه يراك. فالأولى عبادة رغبة وطمع، والثَّانية عبادة خوف ورهب)
2- الإحْسَان إلى الوالدين:
جاءت نصوص كثيرة تحثُّ على حقوق الوالدين وبرِّهما والإحْسَان إليهما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24]
قال القرطبي: (قال العلماء: فأحقُّ النَّاس بعد الخالق المنَّان بالشُّكر والإحْسَان والتزام البرِّ والطَّاعة له والإذعان مَن قرن الله الإحْسَان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره، وهما الوالدان، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] )
وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أفضل؟ قال: الصَّلاة لوقتها. قال قلت: ثمَّ أي؟ قال: برُّ الوالدين. قال قلت: ثمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ))
قال الرَّازي: (أجمع أكثر العلماء على أنَّه يجب تعظيم الوالدين والإحْسَان إليهما إحسانًا غير مقيَّد بكونهما مؤمنين؛ لقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] )
3- الإحْسَان إلى الجار:
عن أبي شُريح الخُزاعي أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت ))
ويكرم جاره بالإحسان إليه وكف الأذى عنه، وتحمل ما يصدر منه، والبشر في وجهه، وغير ذلك من وجوه الإكرام
4- الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين:
ومِن الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين: المحافظة على حقوقهم والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدُّ يد العون لهم، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [البقرة: 83]
(فإنَّ الإحْسَان إليهم والبرَّ بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم مِن أزكى القربات، بل إنَّ العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال: ((امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)) وفي رواية: أنَّ رجلًا جاءه يشكو قسوة قلبه، فقال له: ((أتحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه مِن طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك)) وذلك أنَّ القلب يتبلَّد في المجتمعات التي تضجُّ بالمرح الدَّائم، والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى مِن الحياة غير آفاقها الزَّاهرة ونعمها الباهرة، والمترفون إنَّما يتنكَّرون لآلام الجماهير؛ لأنَّ الملذَّات -التي تُيَسَّر لهم- تُغلِّف أفئدتهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألِّم وحزن المحزون، والنَّاس إنَّما يُرْزَقون الأفئدة النَّبيلة والمشاعر المرهفة عندما ينقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويُبْلَون مسَّ السَّرَّاء والضَّرَّاء.. عندئذ يحسُّون بالوحشة مع اليتيم وبالفقدان مع الثَّكلى وبالتعب مع البائس الفقير)
5- الإحسان في المعاملات التجارية :
قد أمر الله تعالى بالعدل والإحْسَان جميعًا، والعدل سبب النَّجاة فقط، وهو يجري من التِّجارة مجرى سلامة رأس المال، والإحْسَان سبب الفوز ونيل السَّعادة، وهو يجري من التِّجارة مجرى الرِّبح، ولا يُعدُّ مِن العقلاء مَن قنع في معاملات الدُّنْيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة.
ولا ينبغي للمتديِّن أن يقتصر على العدل واجتناب الظُّلم، ويدع أبواب الإحْسَان وقد قال الله تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] ، وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النَّحل: 90] ، وقال سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وينال المعامل رتبة الإحْسَان بواحدٍ مِن ستَّة أمور:
الأوَّل: في المغابنة، فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأمَّا أصل المغابنة فمأذونٌ فيه، لأنَّ البيع للرِّبح، ولا يمكن ذلك إلَّا بغبن، ولكن يراعى فيه التَّقريب، ومَن قنع بربحٍ قليلٍ كثرت معاملاته، واستفاد مِن تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.
الثَّاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعامًا مِن ضعيف أو شيئًا مِن فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل، ويكون به محسنًا وداخلًا في قوله عليه السَّلام: ((رحم الله سهل البيع وسهل الشِّراء ))، وأما احتمال الغبن مِن الغني فليس محمودًا، بل هو تضييع مال مِن غير أجر ولا حمد، وكان كثيرٌ مِن السَّلف يستقصون في الشِّراء، ويهبون مِن ذلك الجزيل مِن المال، فقيل لبعضهم في ذلك فقال: إنَّ الواهب يعطي فضله، وإنَّ المغبون يغبن عقله.
الثَّالث: في استيفاء الثَّمن وسائر الدُّيون والإحْسَان فيه مرَّة بالمسامحة وحطِّ البعض، ومرَّة بالإمهال والتَّأخير، ومرَّة بالمساهلة في طلب جودة النَّقد، وكلُّ ذلك مندوبٌ إليه ومحثوثٌ عليه، وفي الخبر: ((مَن أقرض دينارًا إلى أجلٍ، فله بكلِّ يوم صدقة إلى أجله، فإذا حلَّ الأجل فأنظره بعده، فله بكلِّ يوم مثل ذلك الدَّين صدقة ))، ونظر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلًا بدين، فأومأ إلى صاحب الدَّين بيده، أي: ضع الشَّطر، ففعل، فقال للمديون: ((قم فأعطه ))
الرَّابع: في توفية الدَّين، ومِن الإحْسَان فيه حسن القضاء، وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحقِّ، ولا يكلِّفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم أحسنكم قضاءً ))، ومهما قدر على قضاء الدَّين فليبادر إليه ولو قبل وقته، وإن عجز فلينوِ قضاءه مهما قدر، ومهما كلَّمه مستحقُّ الحقِّ بكلام خشن، فليتحمَّله وليقابله باللُّطف اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم لـمَّا ردَّد عليه كلامه صاحب الدَّين، فهمَّ به أصحابه، فقال: ((دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا )) ومِن الإحْسَان أن يميل الحكم إلى مَن عليه الدَّين لعسره.
الخامس: أن يُقيل مَن يستقيله؛ فإنَّه لا يستقيل إلَّا متندِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بالبيع، ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، وفي الخبر: ((مَن أقال نادمًا صفقته، أقال الله عثرته يوم القيامة ))
السَّادس: أن يقصد في معاملته جماعة مِن الفقراء بالنَّسيئة، وهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم يظهر لهم مَيْسَرة، وكان مِن السَّلف مَن يقول لفقير: خذ ما تريد، فإن يُسِّر لك فاقض، وإلَّا فأنت في حلٍّ منه وسعة.
6- الإحْسَان إلى المسيء:
(ومِن أجلِّ أنواع الإحْسَان: الإحْسَان إلى مَن أساء إليك بقولٍ أو فعلٍ. قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصِّلت: 34-35]
ومن كانت طريقته الإحْسَان، أحسن الله جزاءه: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60])
وذكر الهرويُّ أنَّ مِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين (الفتوَّة)، وقال: (هي على ثلاث درجات، الدَّرجة الأولى ترك الخصومة، والتَّغافل عن الزلَّة، ونسيان الأذيَّة. والدَّرجة الثَّانية أن تقرِّب مَن يقصيك، وتكرم مَن يؤذيك، وتعتذر إلى مَن يجني عليك، سماحةً لا كظمًا، ومودَّةً لا مصابرةً)
قال ابن القيِّم في ذلك: (هذه الدَّرجة أعلى ممَّا قبلها وأصعب؛ فإنَّ الأولى تتضمَّن ترك المقابلة والتَّغافل، وهذه تتضمَّن الإحْسَان إلى مَن أساء إليك، ومعاملته بضِدِّ ما عاملك به، فيكون الإحْسَان والإساءة بينك وبينه خُطَّتين فخُطَّتك: الإحْسَان. وخُطَّته: الإساءة.
وفي مثلها قال القائل:
إذا مرِضْنا أتَيْناكم نَعودُكمُ وتُذْنبون فنَأْتيكم ونَعتذرُ

ومَن أراد فهم هذه الدَّرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النَّاس يجدها بعينها)
7- الإحْسَان في الكلام:
قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53]
قال ابن كثير: (يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطَّيبة؛ فإنَّهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشَّيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشَّرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإنَّ الشَّيطان عدوٌّ لآدم وذرِّيته مِن حين امتنع مِن السُّجود لآدم، فعداوته ظاهرة بيِّنة؛ ولهذا نهى أن يشير الرَّجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإنَّ الشَّيطان ينزغ في يده، أي: فربَّما أصابه بها)
8- الإحْسَان في الجدال:
يقول الله تبارك وتعالى: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحل: 125]
قال الشَّوكاني: (أي: بالطَّريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنَّما أمر -سبحانه- بالمجادلة الحسنة لكون الدَّاعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا)
9- الإحْسَان إلى الحيوان:
ومِن الإحْسَان إلى الحيوان، إطعامه والاهتمام به، وحدُّ الشَّفرة عند ذبحه، وأن لا يحدَّ الشَّفرة أمامه، وعدم الحمل إليه أكثر مِن طاقته.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة... ))، وكره أبو هريرة أن تُحَدَّ الشَّفرة والشَّاة تنظر إليها، وروى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحدُّ شَفْرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شَفْرتك قبل أن تضجعها ))، وكان عمر بن الخطَّاب ينهى أن تُذْبَح الشَّاة عند الشَّاة
قال ابن رجب: (والإحْسَان في قتل ما يجوز قتله مِن النَّاس والدَّواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه، وأسهلها. وهذا النَّوع هو الذي ذكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: ((إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة ))، والقِتْلة والذِّبْحة -بالكسر- أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القَتْل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النُّفوس التي يُبَاح إزهاقها على أسهل الوجوه. وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحْسَان في الذَّبيحة)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((في كلِّ كبد رطبة أجر ))
قال النَّوويُّ: (معناه في الإحْسَان إلى كلِّ حيوان حي -بسقيه ونحوه- أجر، وسمَّي الحي ذا كبد رطبة؛ لأنَّ الميِّت يجفُّ جسمه وكبده. ففي الحديث الحثُّ على الإحْسَان إلى الحيوان المحترم، وهو ما لا يُؤمر بقتله. فأمَّا المأمور بقتله فيمتثل أمر الشَّرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن. وأمَّا المحترم فيحصل الثَّواب بسقيه والإحْسَان إليه، أيضًا بإطعامه وغيره سواءً كان مملوكًا أو مباحًا، وسواءً كان مملوكًا له أو لغيره)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((عُذِّبت امرأة في هرَّة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النَّار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل خَشَاش الأرض ))

(يتبع )

البراء الحريري
05-12-2025, 12:16 PM
تابع – الاحسان

الأمثال في الإحْسَان

- اسْقِ رَقَاشِ إنَّها سَقَّايَة:
يُضْرَب في الإحْسَان إلى المحسن
- إنَّما يَجْزِي الفَتى ليْسَ الجَمَل:
ومعناه إنَّما يجزي على الإحْسَان بالإحْسَان مَن هو حرٌّ وكريم، فأمَّا مَن هو بمنزلة الجمل في لؤمه وموقه، فإنَّه لا يُوصَل إلى النَّفع مِن جهته إلَّا إذا اقتُسر وقُهر
- إنَّما هو كبَارحِ الأَرْوَى قليلًا ما يُرى:
وذلك أن الأرْوَى مساكنُها الجبالُ، فلا يكاد النَّاس يرونها سانحةً ولا بارحةً إلَّا في الدَّهر مرَّة. يُضْرب لمن يُرى منه الإحْسَان في الأحايين
- جَــزَيْــتُهُ كَيْلَ الصَّاعِ بِالصَّاعِ:
إذا كافأتَ الإحْسَانَ بمثله والإساءةَ بمثلها
- وجدت النَّاسَ إن قارضْتَهُم قارَضُوك:
أي: إن أحسنت إليهم أحسنوا إليك، وإن أسأت فكذلك

الإحْسَان في واحة الشِّعر

قال أبو الفتح البستي:
زيادةُ المرءِ في دنياه نقصانُ وربحُه غيرَ محضِ الخير خسرانُ
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
مَن جادَ بالمالِ مالَ النَّاسُ قاطبةً إليه والمالُ للإنسانِ فتَّانُ
أَحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومَقْدِرَةٌ فلن يدومَ على الإنسان إِمكانُ
حيَّاك مَن لم تكنْ ترجو تحيَّتَه لولا الدَّراهمُ ما حيَّاك إنسانُ

وقال أيضًا:
إن كنتَ تطلبُ رتبةَ الأشرافِ فعليك بالإحسانِ والإنصافِ
وإذا اعتدى خِلٌّ عليكَ فخلِّهِ والدَّهرَ فهو له مكافٍ كافِ

وقال المتنبي:
وللتَّرْك للإحسانِ خيرٌ لمحسنٍ إذا جَعَل الإحْسَانَ غيرَ ربيبِ

وقال أحمد الكيواني:
مَن يغرسِ الإحْسَانَ يجنِ محبَّةً دونَ المسيءِ المبعدِ المصرومِ
أقِلِ العثارَ تُـقَلْ ولا تحسدْ ولا تحقِدْ فليسَ المرءُ بالمعصومِ

وقال ابن زنجي:
لا تَحْقِرَنَّ مِن الإحسانِ محقرةً أحْسِنْ فعاقبةُ الإحسانِ حُسناه

وقال آخر:
واللهِ ما حُلي الإمامُ بحليةٍ أبهى مِن الإحْسَانِ والإنصافِ
فلسوفَ يلقَى في القيامةِ فِعْلَه ما كان مِن كدرٍ أتاه وصافي

وقال أبو العتاهية:
لا تمشِ في النَّاس إلَّا رحمةً لهمُ ولا تعاملْهم إلَّا بإنصافِ
واقطعْ قوَى كلِّ حقدٍ أنت مُضْمِرُه إن زلَّ ذو زلَّةٍ أو إن هفا هافِ
وارغبْ بنفسك عمَّا لا صلاحَ له وأوسِعِ النَّاسَ مِن بِرٍّ وإلطافِ
وإن يكنْ أحدٌ أولاك صالحةً فكافِهِ فوقَ ما أولى بأضعافِ
ولا تكشِّفْ مُسيئًا عن إساءتِه وصِل حبالَ أخيك القاطعِ الجافي

البراء الحريري
05-12-2025, 12:17 PM
موضوعنا القادم سيكون إن شاء الله عن( الإلفة )

ونتناول فيه :

1- معنى الأُلْفَة لغةً واصطلاحًا
2- التَّرغيب الأُلْفَة
3- أقوال السَّلف والعلماء في الأُلْفَة
4- فوائد الأُلْفَة
5- أسباب الأُلْفَة
6- الأُلْفَة في واحة الشِّعر

أمَوآج آلشَرقَيهہْ♥
06-21-2025, 11:44 PM
جزاك الله خير طرح قيم ..
بارك الله فيك .. ونفع بك ..
وفي موآزين حسنآتك ي رب ..
-