![]() |
#13 |
![]() ![]() |
![]()
[justify]
نظر إلى السماء وهي تتلبَّدُ بالغيوم ، فاحتذى حذاءه ، وأوصد الباب خلفه ، وأخذ يجول في سككِ القرية التي هجرها بعض أهلها إلى المدينة حتى قادته قدماه دون وعيٍ منه إلى منزل شجرة الليمون في طرف القرية التي هجرها أهلها ومضوا عنها إلى المدينة ! أصاخ سمعه لصرير الباب وهو يفتحه ، ثم نظر إلى عرصة الدار المليئة بالغبار وبعض أغصان شجرة الليمون المبعثرة وأوراقها المتساقطة ! دلف إلى الداخل وبدأ التجول فيه متأمِّلًا متذكِّراً ما مضى ، عندما كان البيت آهلًا تخفق بين جوانحه السعادة ، ويَنْضَحُ من عِطْفَيْه الأنس والبهجة ! خطى بضع خطوات ووقف أمام العمود ونظر إلى العش في التجويف الخشبي أعلاه ، وتذكر كيف يصعدون إليه ويأخذون العصافير التي فيه ويذهبون بها إلى أمهاتهم ليذبحنها لهم ويطهينها ! تبسم ونقل ناظره إلى الميزاب في الحائط الذي يتناوبون القفز والمرور منه عندما يسيل منه ماء المطر ! أطال التأمل والتذكر ، ثم قال : ما الذي حداني على العوج على مغاني الصبا ومنزل شجرة الليمون مذْ ريعاني حتى كهولتي ؟! ما الذي حداني إلى ترك مغنى الصبا وملتقى الأتراب في جهة الشمال والحضور إلى البقعة الخالية الصغيرة في الجنوب ؟! ما الذي حداني على النوم في الفناء قرب الحائط الغربي ، وجعل رأسي إليه ؟! ثلاثون عامًا مذْ ظعنتِ من القرية وأنا لم أنس ذلك المحيا الجميل ولا المنزل الذي ضمَّكِ عطفاه ؟! ثلاثون عامًا وفؤاد الحنين يثعبُ دمًا لا يرقأ ! ثلاثون عامًا وأنياب النأي تقطر منها الدماء ! انسابتْ الدموع على وجنتيه وهو يتذكر ما كان في عطفي هذا المنزل والقرية من الأنس والسرور والتئام الشمل ، ونقاء القلوب ، وتكاتف الجيران ، وسارة التي كان يراها تمثال البهاء والحياء ! استدار ومضى إلى شجرة الليمون في آخر الفناء الشمالي الغربي ووقف أمامها ، وقال : أحببتكِ حبًّا تجاوز الجسد وسما إلى الروح ، حتى لو أن غيركِ بمسلاخكِ ما نظرتُ إليه فضلًا عن أن أحفل به ! يا الله ! كم أودُّ من كل قلبي أن أعود ذلك الطفل الذي ينسلُّ من مغنى ملتقى أترابه في الجهة الشمالية ، ويأتي إلى البقعة الخالية في جهة الجنوب لأنَّ منزلكِ هناكَ ! ولأنَّه يراكِ من النافذة تطلين فيُبهج ناظره بمحيَّاكِ العذب البديع ، وقلبه بالأماني التي ينسجها وينساق خلفها ! كم أودُّ أن أعود ذلك الطفل الذي يجلس تحت النخلة ليسرح مع أحلامه وأمانيه وأنتِ أعظمها وأعزها ! رفع رأسه إلى النافذة المطلة على شجرة الليمون ، وقال : لا شيء يعدلُ عند الكهل شروق الشمس وغروبها ، ورؤية الطيور العائدة إلى أكنانها ، ونسيم الصحراء والبحر في الليل ، وعبق الأثل وبيوت الطين والغيث المنهمر ، إلا رؤية محيَاكِ البهي ، ونجي حديثكِ البديع ، وصوتكِ العذب الذي ينساب في سمعه ويستقر فيه استقرار الطمأنينة في القلوب ! صمتَ قليلًا ورفع ناظره إلى الجدار المنثلم ، وقال : لم تُمْتَطَ صهوة جواد الوصل ! وها قد أكهلتُ فهل آن الأوان ؟! أم سيَنْبَتُّ رسَنُ الّلِجامِ ويمضي دون أن يُـمْتطى ! خرج يجرُّ قدميه جرًّا واتجه إلى الأثلة في آخر القرية واتخذ مجلسه أسفلها ، وبدأ يرقبُ السماء وهي تعبسُ ثم تكفهرُ ثم تزفرُ وتبتسمُ ! كانت هذه العادة لديه مُذْ أيفع لا يقطعها إلا حين يُقعده السَّقَمُ ، وحينها يجتمع عليه السقمان (سقم الجسد ، وسقم حرمانه من الأنس والسرور بجلوسه ومراقبته) ! كان يستروحُ عبير الأثل المخضلِّ من الغيث المنهمر ، ويقول : أي عبقٍ يعدلُ عبق الأثل المخضلة أغصانها وهدبها من الغيث المنهمر ؟! أيعدله عبق لقاء الأحباب ووصلهم ؟! هو والله منه وإليه ! فطالما اجتمعنا أسفلها واكتنَنَّا بها عن الغيث المنهمر ، وامتزج الغيث وما تساقط من الهدب بملابسنا ، وملأنا رئاتنا منه ! أم لحظات الوصال المختلسة من فم النأي ؟! هي والله مكان اللقاء ، ومجلس الأنس ، ومأوى عنادل الهوى التي تشدو ألحان الحب وترانيم الوصل ! صمتَ قليلًا ، وأطرق برأسه وبقلبه يعتلج الذي أخرجه من العريش المسقف بجذوع الأثل وجريد النخل والجمر المضطرم في الموقد ، والقهوة والشاي ، والأثلة المنتصبة في عرصة الدار ! نظر عن يمينه فإذا الأرض منبسطة ممتدة لا يحدها سوى الكثبان الرملية ، ونظر عن يساره فإذا القرية تلوحُ له منازلها المتراصة صغيرة لبعد المسافة ، مد ناظره للأمام فرأى النساء يستعذبن الماء من النبع ، وعند الأثلة فتى وفتاة يتهامسان ! أطرق برأسه مرة أخرى فرأى زهرة صغيرة من الزهور الربيعية أقحمتْ نفسها بجانب جذع الأثلة ، وأطلَّتْ برأسها من بين هدبها المتساقط ! تبسَّم لهذا المنظر وأطال التأمل فيها ، ولم يفقْ من شروده إلا على يمامة تغرِّدُ ، فرفع رأسه إليها وقال : مضى الريعان ! وأوصدتْ دون الوصل ضِبَابُ الصَّرْمِ والنَّأْيِ والنُّزُوحِ ، ومكانكِ هذا وشدوكِ أولى به الغراب ونعيبه ! فقد مضى ما يؤبه له ويحفل ، ولم أعد أنشدُ إلا ما طال انتظاري له والله أعلم به ولن يخيب رجائي ويقيني ! لا أقول هذا من باب التشاؤم أو القنوط ! بل هو انصرام الريعان والشباب وقدوم الكهولة وتحفز الشيخوخة ! وأوان طيِّ الفراش والتأهب لذلك الموضع وذلك اليوم ! رفع رأسه ونظر إلى السماء متأملًا قطرات الغيث التي ينزلُ مع كل نقطة ملكٌ ليضعها في مكانها دون أن تمتزج بغيرها ، كان يتأمل بهذا الحديث الذي طرق سمعه وقدرة ملك الملوك الذي لا يعجزه شيءٌ ، فقال : لم آتِ إلى هذا المكان العزيز والأثلة المتأصلة في القلب للوصل واللقاء ، واختلاس ساعة أراها بها ، وإنما أتيتُ أبسطُ ضعفي وتضرعي ، وندمي على ما بدر ! أتيتُ للتودُّعِ من هذه المغاني ، وبسط يد الندم ، والرنو إلى السماء ، ورفع أكف الضراعة لعلَّ غافر الذنب قابل التوب يغفر لي ويقبل مني ! صمت قليلًا ، وأحد نظره إلى النبع ، وأراد المضي إليه ، ولكنه تردد ، ثم آثر البقاء تحت الأثلة والمشاهدة من بعيد ، وقال : لم يعد عزو ! بل أبو بسام ! ولم يعد الريعان بل الكهولة ! ولم تعد الفتوة بل الهدوء ! ولم يعد الرنُوُّ بل الإطراقُ ! ولم يعد اللهاث بل الإخلاد ! ولم تعد صلابة العريكة بل لينها ! سيقضي الكهلُ نحبَه ، وإنه لعلى يقينٍ بأن الحظَّ سيبتسم له ، وتشرق شمس السعادة ، ويبزغ بدر الأنس الذي طال انتظاره ، وأن الرحمن الرحيم حرمه الكثير من الأماني –التي زهد بها حين تقدم به العمر- ليحظى بأمنية عمره العظمى التي ينشدها منذ طفولته ! نعم ، سيمضي الكهل مبقيًا أطلال صباه ! مغاني طفولته ! فتنة قلبه ! بيوت الطين ! الأثل ! شدو الطيور ! غيث الشتاء وشروق شمسه وغَشْيُ ليله ! الأصيل ! التي أحبَّ الدنيا لأجلها ! سيمضي الكهلُ نادمًا على ما فرَّطَ فيه ، منيبًا إلى ربه ، سائلًا متضرِّعًا أن يغفر له ويتجاوز عنه ، وينظر إليه بعين الرحمة ويسكنه دار كرامته فضلًا منه وكرمًا ! سيمضي الكهل في ليلةٍ سرمدية كما أتى في ليلةٍ شديدة الغيهب ، مبتسمًا راضيًا حامدًا لله شاكرًا أن أتمَّ عليه نعمته وأسبغ عليه فضله ! سيقضي الكهل نحبه وستشدو الطيور سرورًا مازجةً بين الصبي ذي الشِّرَّة والكهل ذي الوقار ! ليمتد الجهام فغايته انبلاج الفجر ، ولتثر الزوابع فمداها السكون ، ولتربو القواصف فعقباها الهدوء ! ولتنعب الغربان فمآلها الصمت ! نهض من مجلسه واتجه صوب المقبرة في آخر القرية ، وجال بين رجامها الصامتة ، ورسومها الدارسة ، وهو يتذكر أحبابه الذين قضى معهم ردحًا من الزمن ، فمنهم من لبَّى النداء الأعظم ، وها هي بقايا رسوم ديارهم الدارسة ! ومنهم من شطتْ به الديار ومضى إلى حيث حطتْ به عصا التسيار ولقمة العيش ، فقال : متنا قبل أن تموتوا ، وسكنَّا أجداث الشجى ، قبل أن تسكنوا الرياض النضرة وتمتهدوا الزرابي والاستبرق –بإذن من وسعتْ رحمته السموات والأرض- ، وفاضتْ أرواحنا حنينًا قبل أن تفيضَ أرواحكم لرحمة الرحمن الجواد الأكرم ! مضى صوب الكثبان الرملية ، وهو يرى الليل مادًّا ذراعيه ، فقال : استقبلني الليل في أول قدومي إلى الدنيا ، وها هو يمد ذراعيه لاستقبالي في آخر المطاف ! لفه الليل بردائه ، وكان آخر العهد ![/justify] |
![]() أجهدني إلقامُ الحجارة ! أخذ مني مأخذه وبلغ مبلغه ! ![]() |
![]() |
#14 |
![]() ![]() |
![]()
[justify]
نُشرُ تصميمٌ في أحد المنتديات وطُلبَ مني المشاركة فلم أستطع إلا الامتثال : ها قد استجاب الله دعواتي التي كنتُ أرفعها إليه في اليوم والليلة مذْ أيفعتُ ! ها نحن معًا تحت سقفٍ واحدٍ ! ترفرفُ علينا أجنحة السعادة ، وتظلُّنا سحب الأنس والسرور ! ها أنتِ تضعين رأسكِ على قلبي لتنصتي إلى اسمكِ الذي تشكله نبضاته بانتظام وأنا أضع رأسي على قلبكِ لأعبَّ من السعادة وأكرع من الطمأنينة ! قد أزهدني الله في النساء وفي الزواج لأنه سيجزي صبري بكِ –بعد هذا العمر- وأنتِ التي انتظرتها مذْ رأيتها أول مرة ، والتي ارتضاها قلبي وألفتها روحي ، وها هي عنادل الهوى تشدو لنا ألحان الحب ، وبلابل الوصل تغرِّدُ ترانيم اللقاء ! يا أميرة الفواتن وسيدة القلب المتربعة على عرشه : لستُ نادمًا على عمري الذي مضى دون روحٍ تؤنسُ وحدتي وتبدِّدُ وحشتي ! ولكنني نادمٌ أشدَّ الندم على عمرٍ مضى وأنتِ نائيةٌ عنه ، أبثُّ الليل وما فيه شجني وحنيني إليكِ ! [/justify] 2/1/1446 هـ 23 : 5 م . |
![]() |
![]() |
#15 |
![]() ![]() |
![]()
[justify]
قصة سارة للكاتب عبد العزيز التويجري بسم الله أبدأ .. نظر إلى السماء وهي تتلبَّدُ بالغيوم ، فاحتذى حذاءه ، وأوصد الباب خلفه ، وأخذ يجول في سككِ القرية التي هجرها بعض أهلها إلى المدينة حتى قادته قدماه دون وعيٍ منه إلى منزل شجرة الليمون في طرف القرية التي هجرها أهلها ومضوا عنها إلى المدينة ! بدأت السرد بلسان الراوي العليم، وظهور أول للشخصية الرئيسة ( ضمير الغائب ). حملت جزئية الافتتاح معها البيئة الزمانية، فصل الشتاء .. والشاهد ( تلبد الغيوم ) حملت أيضاً البيئة المكانية ( القرية )، والتي هجرها بعض أهلها إلى المدينة، دونما حاجة لتكرار التذكير لهذه النقطة. عدسة القاص تسلط الضوء على منزلٍ يُسمى ( منزل شجرة الليمون ) ومكانه ( في طرف القرية ) هذه العدسة ترافق الشخصية إلى ذلك المكان، ليشاهد القارىء شكل وماهية هذا المنزل من جهة، ومن جهة أخرى .. لمعرفة السبب الخفي للفعل ( قادته قدماه )، والتي تعني بأن شيئاً ما بداخل الشخصية يحركه إلى ذلك المنزل .. فما هو هذا الشيء؟ ونكمل القراءة .. أصاخ سمعه لصرير الباب وهو يفتحه ، ثم نظر إلى عرصة الدار المليئة بالغبار وبعض أغصان شجرة الليمون المبعثرة وأوراقها المتساقطة ! دلف إلى الداخل وبدأ التجول فيه متأمِّلًا متذكِّراً ما مضى ، عندما كان البيت آهلًا تخفق بين جوانحه السعادة ، ويَنْضَحُ من عِطْفَيْه الأنس والبهجة ! عدسة القاص تكشف عن هيئة هذا المنزل، ولكل فعل دلالته ( صرير الباب ) والتي تعني الهجر وقلة الاستعمال. ( مليئة بالغبار ) / ( أوراقها متساقطة ) والتي تؤكد معنى الهجر. ويكشف السارد عن معرفته السابقة لأهل البيت مستخدما ( متأملاً / متذكراً / جوانحه السعادة ) ونكمل القراءة .. خطى بضع خطوات ووقف أمام العمود ونظر إلى العش في التجويف الخشبي أعلاه ، وتذكر كيف يصعدون إليه ويأخذون العصافير التي فيه ويذهبون بها إلى أمهاتهم ليذبحنها لهم ويطهينها ! تبسم ونقل ناظره إلى الميزاب في الحائط الذي يتناوبون القفز والمرور منه عندما يسيل منه ماء المطر ! أطال التأمل والتذكر ، ثم قال : ما الذي حداني على العوج على مغاني الصبا ومنزل شجرة الليمون مذْ ريعاني حتى كهولتي ؟! ما الذي حداني إلى ترك مغنى الصبا وملتقى الأتراب في جهة الشمال والحضور إلى البقعة الخالية الصغيرة في الجنوب ؟! ما الذي حداني على النوم في الفناء قرب الحائط الغربي ، وجعل رأسي إليه ؟! في الجزئية السابقة .. اعتمد القاص على السردية في بناء الحبكة، فأكثر من الوصف للبيئة المكانية، بتزامنٍ وخط موازي لتأثير هذه البيئة على دواخل الشخصية. على صعيد آخر .. جاء المونولوج الداخلي على هيئة أسئلة للنفس، في تضادٍ ملفت بين سبب القدوم إلى هذا المنزل، وسبب الرحيل عنه أصلاً .. حملت هذه الجزئية عمر هذه الشخصية ( كهولتي ). ثلاثون عامًا مذْ ظعنتِ من القرية وأنا لم أنس ذلك المحيا الجميل ولا المنزل الذي ضمَّكِ عطفاه ؟! ثلاثون عامًا وفؤاد الحنين يثعبُ دمًا لا يرقأ ! ثلاثون عامًا وأنياب النأي تقطر منها الدماء ! في الجزئية السابقة .. يكشف السارد من خلال استمرار المونولوج الداخلي أيضاً عن البيئة الزمانية قبل هذه الزيارة ( ثلاثون عاماً ) يكشف السارد عن الشخصية البطلة من خلال ذات المونولوج، ورحيلها عن هذه القرية .. بلغة تقطر عذوبة وحنين، قوية المفردة تُظهر مدى تأثر هذه الشخصية بكل اقتدار ومهارة. فما تأثير هذه الذكرى على الشخصية ..؟ انسابتْ الدموع على وجنتيه وهو يتذكر ما كان في عطفي هذا المنزل والقرية من الأنس والسرور والتئام الشمل ، ونقاء القلوب ، وتكاتف الجيران ، وسارة التي كان يراها تمثال البهاء والحياء ! تظهر هذه الجزئية تأثير هذه الذكرى ( الدموع ) ويفصح السارد عن اسم الشخصية البطلة ( سارة ) وبعض صفاتها ( البهاء / الحياء ) . ونكمل القراءة .. استدار ومضى إلى شجرة الليمون في آخر الفناء الشمالي الغربي ووقف أمامها ، وقال : أحببتكِ حبًّا تجاوز الجسد وسما إلى الروح ، حتى لو أن غيركِ بمسلاخكِ ما نظرتُ إليه فضلًا عن أن أحفل به ! يا الله ! كم أودُّ من كل قلبي أن أعود ذلك الطفل الذي ينسلُّ من مغنى ملتقى أترابه في الجهة الشمالية ، ويأتي إلى البقعة الخالية في جهة الجنوب لأنَّ منزلكِ هناكَ ! ولأنَّه يراكِ من النافذة تطلين فيُبهج ناظره بمحيَّاكِ العذب البديع ، وقلبه بالأماني التي ينسجها وينساق خلفها ! كم أودُّ أن أعود ذلك الطفل الذي يجلس تحت النخلة ليسرح مع أحلامه وأمانيه وأنتِ أعظمها وأعزها ! في الجزئية السابقة .. تلازم عدسة القاص المشهد، وفعل الحركة البطيء للشخصية متوافق مع ( كهولتي ) ورغبة الشخصية في معايشة كل التفاصيل .. لذلك كان استخدام الحبكة السردية للحدث مناسباً جداً، والتي – وأعني الحكبة السردية- تعتمد على الوصف المكثف لأدق التفاصيل من جهة، ومن جهة أخرى .. تركز على جوانيات الشخصية. حملت هذه الجزئية مكان الشخصية البطلة ( البقعة الخالية في جهة الجنوب ).. قبل ثلاثين عاماً. ونكمل القراءة .. رفع رأسه إلى النافذة المطلة على شجرة الليمون ، وقال : لا شيء يعدلُ عند الكهل شروق الشمس وغروبها ، ورؤية الطيور العائدة إلى أكنانها ، ونسيم الصحراء والبحر في الليل ، وعبق الأثل وبيوت الطين والغيث المنهمر ، إلا رؤية محيَاكِ البهي ، ونجي حديثكِ البديع ، وصوتكِ العذب الذي ينساب في سمعه ويستقر فيه استقرار الطمأنينة في القلوب ! صمتَ قليلًا ورفع ناظره إلى الجدار المنثلم ، وقال : لم تُمْتَطَ صهوة جواد الوصل ! وها قد أكهلتُ فهل آن الأوان ؟! أم سيَنْبَتُّ رسَنُ الّلِجامِ ويمضي دون أن يُـمْتطى ! في الجزئية السابقة .. امتداد طبيعي للحوار الداخلي للشخصية، وتسليط الضوء على المرحلة العمرية للشخصية وتصرفاتها وأمانيها في حصد لقاء مع الشخصية البطلة. راق لي هذا الوصف الحالم النقي لعواطف الشخصية، لأنه مناسب لعمرها. ليختم السارد هذه الجزئية برجاء ولغة قوية المفردة، عميقة المعنى .. رجاء الوصل الذي ليس له بديلا. ونكمل القراءة .. خرج يجرُّ قدميه جرًّا واتجه إلى الأثلة في آخر القرية واتخذ مجلسه أسفلها ، وبدأ يرقبُ السماء وهي تعبسُ ثم تكفهرُ ثم تزفرُ وتبتسمُ ! كانت هذه العادة لديه مُذْ أيفع لا يقطعها إلا حين يُقعده السَّقَمُ ، وحينها يجتمع عليه السقمان (سقم الجسد ، وسقم حرمانه من الأنس والسرور بجلوسه ومراقبته) ! كان يستروحُ عبير الأثل المخضلِّ من الغيث المنهمر ، ويقول : أي عبقٍ يعدلُ عبق الأثل المخضلة أغصانها وهدبها من الغيث المنهمر ؟! أيعدله عبق لقاء الأحباب ووصلهم ؟! هو والله منه وإليه ! فطالما اجتمعنا أسفلها واكتنَنَّا بها عن الغيث المنهمر ، وامتزج الغيث وما تساقط من الهدب بملابسنا ، وملأنا رئاتنا منه ! أم لحظات الوصال المختلسة من فم النأي ؟! هي والله مكان اللقاء ، ومجلس الأنس ، ومأوى عنادل الهوى التي تشدو ألحان الحب وترانيم الوصل ! صمتَ قليلًا ، وأطرق برأسه وبقلبه يعتلج الذي أخرجه من العريش المسقف بجذوع الأثل وجريد النخل والجمر المضطرم في الموقد ، والقهوة والشاي ، والأثلة المنتصبة في عرصة الدار ! في الجزئية السابقة .. مهارة السرد تتجلى في أمرين .. الأول هو حرص السارد على فعل الحركة للشخصية بين كل فقرة وفقرة ( تحريك النص ) هذا الامر مهم جداً في القص، والسبب لأن الحبكة سردية، وعدم وجود أفعال حركة قد يجنح بالنص إلى نثر الخاطرة، وهذا ما لا يريده السارد، عن معرفة واقتدار. والثاني هو هذه المواكبة بين الماضي والحاضر، وربط الزمنين من خلال ذكرى مشتركة، والتأكيد على أن ما بداخل الشخصية ( الحب ) ثابت ويزيد. الصور الشاعرية تجلت بوضوح في هذه الجزئية، وقدرة القاص ومخزونه اللغوي لا تنكرهما العين، ولا يغفل عنها العقل. ونكمل القراءة .. نظر عن يمينه فإذا الأرض منبسطة ممتدة لا يحدها سوى الكثبان الرملية ، ونظر عن يساره فإذا القرية تلوحُ له منازلها المتراصة صغيرة لبعد المسافة ، مد ناظره للأمام فرأى النساء يستعذبن الماء من النبع ، وعند الأثلة فتى وفتاة يتهامسان ! في الجزئية السابقة .. يمارس القاص فعل الحركة من خلال رصد ما تراه العين، فتأخذ العين مكان الأقدام في رصد المحيط الخارجي للشخصية، وظهور شخصيات ثانوية ( النساء ) من جهة ، ومن جهة أخرى عادات لم تندثر ( يستعذبن الماء من النبع )، ويختم الجزئية برصد شخصيتان ( فتى وفتاة ) والفعل ( يتهامسان ) قال الكثير .. ضمنياً. ونكمل القراءة .. أطرق برأسه مرة أخرى فرأى زهرة صغيرة من الزهور الربيعية أقحمتْ نفسها بجانب جذع الأثلة ، وأطلَّتْ برأسها من بين هدبها المتساقط ! تبسَّم لهذا المنظر وأطال التأمل فيها ، ولم يفقْ من شروده إلا على يمامة تغرِّدُ ، فرفع رأسه إليها وقال : مضى الريعان ! وأوصدتْ دون الوصل ضِبَابُ الصَّرْمِ والنَّأْيِ والنُّزُوحِ ، ومكانكِ هذا وشدوكِ أولى به الغراب ونعيبه ! فقد مضى ما يؤبه له ويحفل ، ولم أعد أنشدُ إلا ما طال انتظاري له والله أعلم به ولن يخيب رجائي ويقيني ! لا أقول هذا من باب التشاؤم أو القنوط ! بل هو انصرام الريعان والشباب وقدوم الكهولة وتحفز الشيخوخة ! وأوان طيِّ الفراش والتأهب لذلك الموضع وذلك اليوم ! في الجزئية السابقة .. يسلط القاص عدسته على المحيط الخارجي للشخصية ( زهرة ثم يمامة ) وأثرهما على نفسيته.. بين السلام في استحضار اليمام وانصرام الشباب في استحضار الغراب. فكأنما الشخصية تشعر بدنو أجلها، وهذا الشعور هو جوهر هذه الزيارة. ليختم السارد بالرجاء. ونكمل القراءة .. رفع رأسه ونظر إلى السماء متأملًا قطرات الغيث التي ينزلُ مع كل نقطة ملكٌ ليضعها في مكانها دون أن تمتزج بغيرها ، كان يتأمل بهذا الحديث الذي طرق سمعه وقدرة ملك الملوك الذي لا يعجزه شيءٌ ، فقال : لم آتِ إلى هذا المكان العزيز والأثلة المتأصلة في القلب للوصل واللقاء ، واختلاس ساعة أراها بها ، وإنما أتيتُ أبسطُ ضعفي وتضرعي ، وندمي على ما بدر ! أتيتُ للتودُّعِ من هذه المغاني ، وبسط يد الندم ، والرنو إلى السماء ، ورفع أكف الضراعة لعلَّ غافر الذنب قابل التوب يغفر لي ويقبل مني ! في الجزئية السابقة .. ربط جميل ومبدع بين قدرة ملك الملوك ( كل قطرة ماء في محلها ) وبين ( ضعفي وتضرعي ) ليختم السارد هذه الجزئية بوقفة للقارىء من خلال جملة ( ندمي على ما بدر ! ) والتي حملت معها ماضٍ لم يفصح عنه السارد وشخصيته طيلة فترة السرد الفائتة. فلماذا الندم ؟ يحمل القارىء هذا السؤال فوق رأسه .. ونكمل القراءة .. صمت قليلًا ، وأحد نظره إلى النبع ، وأراد المضي إليه ، ولكنه تردد ، ثم آثر البقاء تحت الأثلة والمشاهدة من بعيد ، وقال : لم يعد عزو ! بل أبو بسام ! ولم يعد الريعان بل الكهولة ! ولم تعد الفتوة بل الهدوء ! ولم يعد الرنُوُّ بل الإطراقُ ! ولم يعد اللهاث بل الإخلاد ! ولم تعد صلابة العريكة بل لينها ! سيقضي الكهلُ نحبَه ، وإنه لعلى يقينٍ بأن الحظَّ سيبتسم له ، وتشرق شمس السعادة ، ويبزغ بدر الأنس الذي طال انتظاره ، وأن الرحمن الرحيم حرمه الكثير من الأماني –التي زهد بها حين تقدم به العمر- ليحظى بأمنية عمره العظمى التي ينشدها منذ طفولته ! نعم ، سيمضي الكهل مبقيًا أطلال صباه ! مغاني طفولته ! فتنة قلبه ! بيوت الطين ! الأثل ! شدو الطيور ! غيث الشتاء وشروق شمسه وغَشْيُ ليله ! الأصيل ! التي أحبَّ الدنيا لأجلها ! سيمضي الكهلُ نادمًا على ما فرَّطَ فيه ، منيبًا إلى ربه ، سائلًا متضرِّعًا أن يغفر له ويتجاوز عنه ، وينظر إليه بعين الرحمة ويسكنه دار كرامته فضلًا منه وكرمًا ! سيمضي الكهل في ليلةٍ سرمدية كما أتى في ليلةٍ شديدة الغيهب ، مبتسمًا راضيًا حامدًا لله شاكرًا أن أتمَّ عليه نعمته وأسبغ عليه فضله ! سيقضي الكهل نحبه وستشدو الطيور سرورًا مازجةً بين الصبي ذي الشِّرَّة والكهل ذي الوقار ! ليمتد الجهام فغايته انبلاج الفجر ، ولتثر الزوابع فمداها السكون ، ولتربو القواصف فعقباها الهدوء ! ولتنعب الغربان فمآلها الصمت ! في الجزئية السابقة .. مونولوج طويل جداً .. كانه مصارحة بين القاص والقارىء في صورة حديث للنفس. حمل هذا المونولوج اسم الشخصية الرئيسة ( عزو/ أبو بسام ) حمل أيضاً أمنية كل مسلم من ربه ( العفو والغفران والرحمة ) كان التبتل بصيغة الفارس الذي انهكته الحروب والنزاعات مع الدنيا .. والاستراحة تحت ظل الأثلة كانت صورة الربط بين التشبيهين ( الفارس / الكهولة ). حمل أيضاً جواب السؤال ( لماذا الندم ؟ ) والذي مصدره الشعور بالوهن وقتراب الأجل الذي تشعر به الشخصية. حمل معه .. خلاصة الحياة من زاوية القاص على لسان شخصيته. ونكمل القراءة .. نهض من مجلسه واتجه صوب المقبرة في آخر القرية ، وجال بين رجامها الصامتة ، ورسومها الدارسة ، وهو يتذكر أحبابه الذين قضى معهم ردحًا من الزمن ، فمنهم من لبَّى النداء الأعظم ، وها هي بقايا رسوم ديارهم الدارسة ! ومنهم من شطتْ به الديار ومضى إلى حيث حطتْ به عصا التسيار ولقمة العيش ، فقال : متنا قبل أن تموتوا ، وسكنَّا أجداث الشجى ، قبل أن تسكنوا الرياض النضرة والمهاد الموضوعة –بإذن من وسعتْ رحمته السموات والأرض- ، وفاضتْ أرواحنا حنينًا قبل أن تفيضَ أرواحكم لرحمة الرحمن الجواد الأكرم ! في الجزئية السابقة .. تنتهي رحلة الذكريات المحملة بأفكار هذه الشخصية، فكأنما صور هذه الذكريات تتساقط الواحدة تلو الأخرى أمامه وتتحرك الشخصية إلى المقابر، لتختم معها هذه الرحلة في مخاطبة بليغة مقتصدة مع السابقين في رؤية تبناها القاص .. وهي (متنا قبل أن تموتوا ، وسكنَّا أجداث الشجى ، قبل أن تسكنوا الرياض النضرة والمهاد الموضوعة –بإذن من وسعتْ رحمته السموات والأرض- ، وفاضتْ أرواحنا حنينًا قبل أن تفيضَ أرواحكم لرحمة الرحمن الجواد الأكرم ! ) لتأتي الخاتمة هنا.. مضى صوب الكثبان الرملية ، وهو يرى الليل مادًّا ذراعيه ، فقال : استقبلني الليل في أول قدومي إلى الدنيا ، وها هو يمد ذراعيه لاستقبالي في آخر المطاف ! لفه الليل بردائه ، وكان آخر العهد ! نهاية حزينة .. نعم لكن تصويرها كان بديعاً في مشهدٍ سينمائي بامتياز يتناسب مع طبيعة الشخصية، واختيار الحبكة المناسبة له في خط سردي وأفعال حركة كانت ترافق الشخصية في جميع مراحل تنقلها من الخروج الاول (وأخذ يجول في سككِ القرية ) حتى ( لفه الليل بردائه ). نص متقن بيد قاص يعرف كيف يتعامل مع أدواتهِ السردية، ويراعي أفعال الحركة للشخصية، متزامن مع تصرفاتها الخارجية، ومتناغماً مع جوانياتها .. باقتدار وتمكن. لن أنسى في نهاية تعقيبي هذا، أن أوجه أصابع الإشادة بجميل اللغة وقوة المفردة والمخزون الثقافي للقاص. استمتعت بوقتي هنا كل التحية[/justify] |
![]() |
![]() |
#16 |
![]() ![]() |
![]() قد –وايم الله- وصمتموني بالكبر والتعالي ولم أستروحْ نَفْثَهُما ! ولكنني الآن سأريكم حين أَسْتَرْوحُ نَفْثَ الشيطان لمدة دقيقةٍ كيفَ أَكُونُ ! |
![]() |
![]() |
#17 |
![]() ![]() |
![]() خشية أن يفقدها ؛ قِصاصًا قُطِعَتْ يدُهُ ! ع . ب [justify]لستُ ممن يميلون إلى قراءة الومضة وخاصة ما ينشر في المنتديات ، ولكنني عندما قرأتُ ومضة أخي العزيز الأديب القدير الناقد البارع / عدي بلال (المهندس) (... ما قطعْ) ألزم علي القراءة والغوص في أعماقها رغم ضعف الوسائل لدي ! عندما قرأتُ الومضة أول مرة مر بخاطري هذا المثل لابن عباد (عش رجبًا ترى عجبًا) ولعل السبب هو التقديم والتأخير والحذف وسبب آخر لا أحبذ الإفضاء به ! أعدتُ قراءتها ثلاث مرات متتالية بتأنٍ ، وللوهلة الأولى يخيَّلُ إليكَ أنها غير مترابطة ولا تحمل معنى معيَّنًا ، وعندما تتأملُ بها وتعيد قراءتها يظهر لك العمق المخفي بين ثناياها ، وكثرة التأويلات التي تتعارك في ذهنكَ ! بدأ العنوان بالنقط الثلاث ، وهذا يدل على أن هناك كلامًا سبق ! وأتى بعدها بــ (ما الموصولة) -وهذا الذي أميل إليه- وختمه بالقطع ثم علامة التعجب . ونجده لجأ للتقديم والتأخير فقدم المفعول به (قصاصًا) على الفعل والفاعل ، وهذا يدعو إلى التساؤل هل تقدمتْ للتعجب أم للتأكيد ؟! وأميل إلى أنه أتى بالتقديم للتعجب ! نعود الآن إلى الومضة التي تجعلني أتساءل لماذا لم يجعلها هكذا : (قطعت يده قصاصًا خشية الفقد) ! أرأيتم ضعفها وركاكتها لو أتى بها على هذا السبيل ؟! لكنه لبراعته لجأ لأسلوب التقديم والتأخير والحذف فأتى بما يبهر ، فلكَ أن تقول أن القصاص مجازي وهذا سيحلق بك إلى آفاق كثيرة كالأمانة والغربة والوطن و ... ! أو أن تقول إنه حقيقة ، وهنا ستتبادر إليك الكثير من الأسئلة : كالإيثار والصدق والوفاء و ... ! ومن الذي حكم وقضى ونفذ ؟! أقرُّ بعيِّي أمام هذه الومضة البديعة التي تثير الكثير من التساؤلات وتذهب بك إلى تأويلات تتجدد مع كل قراءة ! أشكر أخي أبا ليث على هذه الومضة التي أذهلتني وأجهدت عقلي وأعيت أناملي ! [/justify] |
![]() |
![]() |
#18 |
![]() ![]() |
![]()
[justify]
برَّاقُ : كم أودُّ لو عدتُ ذلك الطفل البريء النقي السريرة الخلي مما يعتري قلوب الكبار ! الذي يخرجُ من حلقة تحفيظ القرآن في الساعة الرابعة ليسابق ظله ليدرك ما تبقى من الرسوم المتحركة التي يندمجُ معها اندماجًا تامًّا والشجن يغمر قلبه لبعض ما فيها ! برَّاقُ : تبزغُ شمس الضحى لتضيء الدنيا وتبزغ شموس أترابي من كل فجٍّ ليضيفوا ضياءً وبهجة إلى مغنى الصبا العذب ويبددوا ما يعتري القلوب الصغيرة من شجى وكدر . برَّاقُ : كم أودُّ لو عاد الصبا ليحوطنا ببردي الأنس والسرور ، ويغمرَنا بغيثه وبهائه ورونقه وعبيره وطهره ونقائه وبراءته ، لنعدو في المربع العذب من شروق الشمس إلى غروبها غير آبهين إلا لما نحن فيه مما يكادُ يفيضُ من قلوبنا من أنسٍ وبشرٍ ! برَّاقُ : يرفرف قلبي على تلك المرابع ، ويجول فيها كما كان طفلًا تفيضُ من جانبيه أنهار الأنس وجداول السرور ! ولم يسلُ ولم ينسَ أولئك الأتراب وتلك البطاح العذبة التي امتزج أريجها مع رئتيه وتأصل تغريد طيورها مع نبض قلبه وتجذر أثلها مع نمو جسده ! برَّاقُ : أيفع الصبيُّ وخفرتْ عنه الشمس الوضاءة ! وارتدى البدرُ غلالة الحياء الرقيقة ! وغادر العندل أيكته إلى أيكةٍ وارفة ! برَّاقُ : أعوجُ على الحيِّ فأجولُ فيه فأرى الكثير من الوجوه الغريبة ! فالمنازل تبدَّلتْ والحيُّ أقوى من جُلِّ أهله ! وما بقي من المنازل فهو خاوٍ على عروشه أمحل طلاؤه ! صدئتْ أبوابه ! تصدعتْ حيطانه ! برَّاقُ : أمضي إلى مسجد الحي الذي أول ما بدأت الصلاة به ، فلا أرى من الوجوه التي أعرفها إلا القليل وقد تبدَّلتْ وبسط الزمن عليها سلطته فأخذ منها شبابها وعنفوانها وأبدلها بالضعف والتجاعيد ! وأبحثُ عن الأشياخ فلا أرى أحدًا منهم لأنهم وفدوا على الحقِّ في دار الحقِّ فتنسابُ دموعي على خدي شجى وأسى ، وأنظر إليَّ فإذا بالشيب غمرني وبدأ يغزوني ما غزا من قبلي من بوادر الضعف والشيخوخة ! برَّاقُ : أُبْتُ بعد هذا العمر من فراديس الصبا وبساتين الشباب وإيوان الكهولة وحيدًا دون أتراب الصبا وأصحاب الريعان ، وإخوان الشباب ! وقد مضى أجمل العمر ، ودرس أنقى المغاني ، ومضوا من لم يبرحوا القلب والعقل ! وأفضى إلى رحمة الله من أفضى معهم الأنس والسرور وأمستْ فراديس وصلهم ولقياهم يبابًا تذروها ريح النأي وتصفِّقُ أبوابها ذواري الذكرى ! فمن أراد المضيَّ فليمضِ ! فمضيُّه ومكثُه سيَّان ! فليس بمدانٍ مُدَّ أو نصيف من مضى وظعن ! برَّاقُ : تعاورتني سيوف النأي ورماح الظعن وسهام الفقد المريشة وقد مال الفارس المثخنُ منها عن صهوة جواده وأوشك على السقوط في موطنٍ لا يحبذه وفي غير الزمن المليء بالطهر والشرة ! وها قد أقبلتْ زوابع الضعف والكهولة لتضعفه -قبل جندلته- في غير ما أحب وأمَّل ! برَّاقُ : كم قَتَلَتِ القَلْبَ بسهمٍ عاقرٍ وسيفٍ شُحذَ سمًّا مَقُوْلَةُ : (ذهب إلى ربه) وليس عقلي كما كان في صباه ليعي أنه مضيٌّ مؤقَّتٌ نلتقي به فيما بعد ! برَّاقُ : سيقال للصغار إن سألوا عني (مضى إلى ربه ليلتقي بأحبابه وسنلتقي به فيما بعد في الجنة) وللكبار (انتقل إلى رحمة الله فسلوا له المغفرة والرحمة) ! أيها الأطفال : عيشوا على أمل اللقاء حتى تلتحقوا بعالم الكبار ! فإذا شببتم وفقهتم فارفعوا أكف الضراعة للرحمن الرحيم أن يغفر لي ويقبل مني ويتجاوز عني ويجعلني من أهل الفردوس ! وإذا حننتم فادعو لي واستغفروا واعلموا أنه أجلٌ وافى وعمرٌ تمَّ وكأسٌ لا محيد من النهل منه وسُكنى لحدٍ لابُدَّ من سكناه ووفودٌ على دارٍ لا مناص من الورود عليها ، واعلموا أنني مضيتُ إلى أحبائي وأودائي –في الجنة- الذين طال حنيني إليهم والذين طالما سألتُ الله أن ألتقي بهم في كنف رحمته ! ربِّ أيا ذا الرحمات المائة : أتيتُ إلى الدنيا باكيًا فاجعل رحيلي منها ضاحكًا مستبشرًا بما بشرتُ به ، واجعلني ممن تقول له الملائكة (هلم إلى ربٍّ رحيم ! هلمَّ إلى روحٍ وريحانٍ وربٍّ راضٍ غيرِ غضبان) ! ربِّ : تنكبتُ المحجة في ريعاني (رياض العلم) وسلكتُ سبيل الغَيِّ (الأدب) ! وقد أدركتني رحمتكَ فزالتِ الغشاوة وانجلى الرانُ فبرحمتكَ اغفر لي ما سلف واعفُ عما اجترحتُ واجعلني من عبادك السابقين إلى طاعتك المجتهدين في التقرب إليك الفائزين برحمتك ومغفرتك ورضوانك وفردوسك ! ربِّ : برحمتكَ حرمتني الكثير من الأماني التي اعتلجتْ بقلبي وأنتَ علام الغُيُوبِ تعلم دخائل الأنفس وما تضمره القلوب ، وتعلمُ جلَّ جلالكَ ما يعتملُ بقلبي وما لم تَكفَّ الأيدي عنه ولم يَنْزِلِ البَصَرُ ويَفْتُرِ الّلِسَانُ منه فلا تحرمني منه برحمتك التي وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأكرم الأكرمين ![/justify] |
![]() |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
تـــبــاريـــح |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|