مجتمع غلاك - أحجية الفراق ..~

هب لي بعضي
فقد تركتني نصف إنسان
وردّ إليّ قامتي التي انحنت على حافة الانتظار
وسقطت على ضفتك في قاع الألم

ما زالت خطواتي عالقة في أديمك
ذلك التراب الذي عجنه وجعي
وأشعلته قسوتك حتى صار جمرة تستعر تحت جلدي

ها أنا أترنّح بين صدى الهمسات التي ما عادت تحمل صوتك
وبين أمانٍ ذابلة توارت في زوايا الروح الخالية من عبقك
عيناي، اللتان ألفتا وجهك صارتا رهينتين لعتمةٍ لا تنيرها الزنابق
مقفرتين من البريق
متصدّعتين بخدوش دموع احترقت بنار الفراق

كيف أبصر وقد كنتَ نوري؟
كيف أفتح عينيّ على عالم غاب عنه إشراقك؟
لقد جمعت أنوارك ورحلت
وتركتني في ظلمةٍ لا انتهاء لها

أردتك نجمة تتهادى في سماء عمري
حلماً يتجسّد أمامي
حضوراً يُمسَك ويُعاش

لكنّ الأماني يا عابري لا تملأ الفراغ ولا تعيد الغائبين

ما جدوى أن أمدّ يدي إلى اللاشيء؟
وما فائدة أن أتبع خريطةً رسمتها أنت ثم محوت تضاريسها؟
لا طُرق تقود إليك
ولا ظل لك في مدينتي
ومع ذلك كيف أكفّ عن البحث عنك؟

أتُراني ألومك؟
أم ألوم نفسي التي فضّلتك عن العالمين
ووهبتك من روحي حتى صرتَ فيها نبضاً لا يخفت؟

كل الغضب الذي يملؤني
كل الخيبة التي تجرّعتُها
ليست إلا لعنة الحبّ الذي توغّل في دمي حتى صار قدراً لا فكاك منه

عيناك…
تلك اللعنة التي أوقعتني في متاهة الضباب
كأنني نظرت إليهما طويلاً حتى فقدت بصيرتي
ومع ذلك، لا غضب في قلبي منك
فكيف أغضب على من صرتُ به وعشتُ من أجله؟

أنت في روحي رغم البعد
طيفٌ لا يخبو
ظلٌّ لا يفارقني
كأنك واقفٌ هنا، تُحادثني، تمازحني، تملأ فراغي بكلماتك التي ما زالت عالقة في الهواء

كنتَ الفرح الذي تسلّق جدران أيامي
وترقّع جرحي بخيوط البهاء
جئتَ كفارسٍ بلا حصان
عاصفةً بلا غيث
زدتني حيرةً وحزناً وتركتني أبحث عنك في كل ما حولي

أنصتُ إلى نبضك في صدري
أتنفّس أنفاسك في رئتي
ألمس دفئك في رعشة يدي وألوذ بك في ليالي الوحشة

لا أعاتبك، ولا ألومك
فقد كنتَ لحظة دهشة في عمري
وكنتُ لك محطة عابرة

أنا التي أطلقتك كطائر في السماء
وظللتُ أراقب جناحيك وهما يبتعدان دون أن أجرؤ على مناداتك بالعودة

لكن أخبرني
كيف ينسى القلب قلبًا كان له الحياة؟
كيف تطفئ الروح نورًا كان يشعلها؟
كيف أمحو من داخلي ظلّك الذي تمدد في أعماقي حتى صار جزءًا مني؟

كل ليلة، حين يطول السهر أتحسس نبضك في عروقي
وأستعيد أنفاسك كأنها لم تفارق رئتي
وأغفو على رائحة الغياب التي تسكنني أكثر مما كنت تسكنني أنت
حتى التراب الذي يكسو لونك الأسمر يحمل سرًا يجعلني أقترف الذهول كلما تخيلتك
وأتساءل: هل كنت حقيقة أم طيفًا عبر روحي ثم انمحى؟
ومع كل فجر أواجه الحقيقة ذاتها
أنني كنتُ السرّ الذي مرّ بك ولم تتوقف عنده، وكنتَ اللغز الوحيد الذي لم أجد إجابته…
عدا أحجية الفراق

~