المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قلب صائم


قصيَميَہ رٍزهہَ♚
05-02-2020, 11:05 PM
كان ( أبو عثمان الكنفاني ) عصر يوم حار من أيا م شهر رمضان ، منهمكا" في عمله أمام فرن الكنافة ، تحت شجرة الكافور الوارفة الظلال ، أمام دكانه في رحبة القرية الواسعة ، وقد رصت على نضد خشبي بجوار الفرن غرابيل الكنافة ، التي تفوح منها رائحة يسيل لها لعاب الصائمين المتجمعين قريبين من شجرة الكافور، كعادتهم ساعة ( العصاري ) يسلون صيامهم بعدما صلوا العصر في جامع العمدة وخرجوا بعدها بمسابحهم ليجلسوا في ظل الكافوره ، ويستمتعوا بمشهد عم ( أبو عثمان الكنفاني ) ، وهو مشمر كمه عن ساعديه حتى أعلى كوعيه ، ويروح بمهارة ، فائقة بين حلة العجين ، والصاج النحاس أعلى الفرن والمدهون بالزيت ، ثم تدور يده بالسطل في حركات دائرية متقاطعة ماهرة ، حتى يكتمل الغربال ، ثم يضع السطل جانبا" ، وينتظر حتى يستوي الغربال ، و( ينس ) وتفوح رائحته ، فيلمه بنفس السرعة والمهارة التي رشه بها قبل أن يحترق ، ثم يطبقه كالمثلث ، ويضعه على النضد الخشبي بجوار الميزان ، ويغطيهم بورقة جورنال ويضع فوقها قطعة حديد كحد ودة الفرس ليثقل الجورنال فلا يطير ويحفظ للغرابيل اتزانها ، ورصتها ، منتظرا" زبونا ، فيرفع قطعة الحديد ، والجورنال ويسحب غربالا" وراء غربال ويزنه حتى يزن الميزان المطلوب نص كيلو أو كيلو أو يزيد ، ثم يعيد الجورنال وقطعة الحديد ، ويعود للسطل ، ولحلة العجين ، ليرش الكنافة من جديد ، بعدما ينظف الصاج بليفة نظيفة مدهونة زيت ، فإذا سخن الصاج ، وتصاعد منه دخان رش من الكنافة غربالا" ثم يلمه ، وهكذا حتى ينتهي من حلة العجين كلها ، فيطفئ وابورها ، وينظف صاجها ، ويجلس على كرسيه ينتظر زبائنه من العصر حتى قبيل المغرب ، ويدخل بيته بعدما يحمل الميزان والنضد الخشبي والوابور وصاج الفرن ليوم غد ، وهكذا طوال شهر رمضان الكريم ، هو( أبو عثمان الكنفاني ) رجل لا يعرف الابتسامة ، جد فوق العادة ، صارم ،متجهم ، متقشف شديد التقشف حتى البخل ، غضوب ، ويصب غضبه دائما" ، ويبعثر صياحه ، ولعناته على ابنته ( فاطمة ) ، التي تجلس جنب الفرن تساعده في كل ما يطلبه منها وعينيها عليه دائما ، تنتبه لكل إشارة ، وكل لمحة منه ، وهى تمسك المذبة لتذب بها الذباب والهوام عن غرابيل الكنافة ، وحلة العجين حتى ينتهي والدها من رش الكنافة كلها ، وهى لا تألو جهدا" ، ولا تقصر معه ، ولا تغفل عن نظرته ، ولا تسهو حتى عن همسته ، رغم حرارة الجو ، ولهيب نار الفرن ،التي تلفح وجهها الطفولي ويكاد ييبس براءته ، ونداوته ، صابرة ، متصبرة ، حتى على حدة أبيها ، وتجهمه ، وصرامته ، وغضبه ، وسخطه ، متحملة رغم صغرها كل ما حملها به ، ويحملها من حمول ، لا تتناسب مع سنها الغضة ، هاتي ، روحي ، يا مقصوفة الرقبة ، حكيم ، سكين ، لكمة ،ساطور.... ، وما يجد من كلمات في قاموس اللعنات ، وإذا زلت يجرها في التراب الحامي من شعرها المنكوش ، بعدما يطرح عنها إ****ها المشجر ، لا يرحم استعطافها ، ولا يلين لبكائها ، وصراخها ، ولا يرق لها قلبه الصائم عن كل معاني الحنو ، فكان يقول لمن يحاول إفلاتها منه وهو يعجنها تحتها بقسوة :
- اكسر لها ضلع يطلع لها عشرة .
والحقيقة على ما نراه منه معها كسر لها كل ضلوعها ، ولم يطلع لها ضلع واحد ، وكانت
( فاطمة ) تغبط من في عمرها على ما هن فيه من حرية ، وحب ، ومرح ، وعطف من أبائهن وأمهاتهن ، وكانت تتمنى أن تنطلق من قبضة أبيها ، وأن تحل ضفائرها المجدولة ، والمطروحة على عارضيها بشريطها الأحمر ،وتجرى ، وتجرى ، وتنط ، وتقفز ، وتتزحلق على المراجيح ، وتتدحرج ، وتضحك ، وتكرر ، ويكون عندها عروسة تضمها ، وتلعب بها ، وتناجيها آخر الليل وتأخذها في حضنها قبل أن تنام ، ولكن كل أمنياتها هرست في فظاظة أبيها ، وغلظته ، وشاخت أحلامها فوق جبينه المتجهم ، كأنها عار لصق به ، وكأن صورتها أمامه تبعث فيه الغضب لأنها تذكره بشيء ولى ومضى مع أمها ، لكنه لا يزال راكدا" في قاع الذاكرة ، تحركه فاطمة بطلة وجهها وهى صورة مصغرة من وجه أمها ، أمها التي لم يقصر معها في شيء لكنها كانت لا تحبه ، رغم حبه لها ، ولا تطيق العيش معه ، وتكيل له اللعنات كيلا" ، وتعايره بفقره ، وعوزته ، وتندب حظها التعس الذي ساقها إليه ، ودفن شبابها ، وجمالها في حضنه ، وبيته ، وفقره ، وكانت دائما" ترى أن بنتها ( فاطمة ) غلطتها منه ، وتندب حظها ، وتلعن ساعة حملها ، ويوم ولادتها ، وكانت حياته أتون من الجحيم معها لا ينطفئ تماما" مثل آتون فرن الكنافة ، رغم أن هذا الأتون ينطفئ قبل الغروب ، ثم يشتعل عصرا ، لينطفئ أحد عشر شهرا" كاملة حتى رمضان القادم ، أما آتون زوجته فدائما كان في بيته مشتعلا" لا تنطفئي ناره ، هي جحيم دنياه ، وترحل الأم فجأة ، يشتعل فيها وابور الجاز ، فتأتي عليها النار ، بداية من نار ، وحياة من نار ، ونهاية من نار ، وتترك له فاطمة بعدها صورة منها تذكره بها وبجحيمها ، وتشرب فاطمة من المر كؤوس ، وتدفع عن أمها فاتورة الجحيم دون أدني ذنب ، كان لا يناديها إلا :
- يا مقصوفة الرقبة .
ودعواته لها :
- جاءتك مصيبة تريحني منك كما أراحتني من أمك .
وفاطمة ، تسمع وتسكت ، تشرب متصبرة ، قليلة الحيلة هي ، كثيرة الصمت هي ، وكأنها خرست ، شاحبة كالليمونة ، ذابلة ، عطشة ، تتمنى الموت لنفسها حتى تستريح من غلظة أبيها ، وقلبه الصائم عن الحب ، وكراهيته لأمها فيها ، وفي هذا العصر القاسي ، الذي يلفح الوجوه بناره ، ويلسعه بلظاه ، كانت نيران شتى تشتعل في ( فاطمة ) ، نار الفرن ، ونار الجو القائظ ، ونار أبيها الذي يكيل لها السباب بداعي وبدون ، لم يقترب منه أحد هذا العصر ليشتري منه غربال كنافة واحد ، فتكومت الغرابيل على النضد ، غطاها بالجورنال كالعادة من الهوام والغبار ، طار الجرنال فجأة بعيدا" لما لفحته هبة ريح ، زجر فاطمة ، وأمرها أن تأتي بالجورنال ، فذهبت البنت جريا" وراء الجرنال الذ ي يعبث به الريح أمامها حتى صادته منه ، وعادت به ، على
حين جلس ( أبو عثمان الكنفاني ) بجوار الفرن يغسل حلة العجين ، والسطل ، ويديه وساعديه ، وغافلتهما عنزة أبو دردير التي كانت تحوم من لحظات حول النضد تتحين الفرصة ، وفاطمة تزجرها ، فتبتعد العنزة لتعود، فلما ذهبت فاطمة جريا" وراء الجورنال وجلس أبو عثمان يغسل الحلة ويديه وساعديه ، عادت العنزة وشدت أطراف الغرابيل المتدلية من النضد ، فتناثرت على الأرض وتبعثرت ، فغضب أبو عثمان غضبا" شديدا" ،وصاح صارخا" في بنته فاطمة :
- العنزة يا ملكومة .
فجرت البنت وراء العنزة تقذفها بالطوب ، ثم عادت لتلم الطرابيل وتعيدها للنضد كما كانت وهى خائفة ، فاقترب منها أبو عثمان غاضبا"، ولم يمهلها نفسا" لتعتذر وهى لا ذنب لها عندما غافلتهما العنزة ، ولكن أنى ينفع رجاءها ، واستعطافها ، وخوفها مع رجل بطبعه غضوب ، فرفع سنجة الميزان فجأة ، وبدون كلمة ، هوى بها على رأس فاطمة وهو يصيح :
- لكمة .
غاضت السنجة في رأس فاطمة ، وغاصت فاطمة في لجة من دمائها الحارة ، وراحت في غيبوبة أبدية ، ليهوى والدها بجوارها بعدما فاق ، وحل عنه الغضب ، كان وهو يجلس بجوارها كأنه عاد من سفر بعيد ،أو كأنه يصحو من سبات عميق ، أو كأن حجابا" أسود كان يغطيه وانزاح عنه فجأة في تلك اللحظة المصيرية ، واحتضنها ولأول مرة ، وبكى ولأول مرة ، وصاح منتحبا":
- فاطمة بنتي ..
وأخذ يقلبها ،يمينا" ويسارا" والناس حوله باكين وينادي :
- اصحي يا فاطمة .. اصحي يابنتي ... اصحي..
وفاطمة لا تصحو أبدا" وكيف تصحو وهي في رقادها الأبدي ، كانت تعلوها ابتسامة غريبة لها معاني كثيرة ، وعلا آذان المغرب من جامع العمدة ، وأفطر الناس إلا أبو عثمان ظل صائما مثلما كان صائما|، يعصره الندم خلف القضبان مقيداً، يدهمه منظر فاطمة في دمائها فيصرخ بعلو حسه محاولاً تحطيم قيوده مناديا" بندم لا طائل منه إلا الحسرة :
- فاطمة سامحيني يا بنتي ..
محمد عبدالنعيم

رآنيا
05-03-2020, 06:43 AM
الله يقويك ويعطيك العافية يالغلا

~

تساهيل
05-03-2020, 06:42 PM
الله يعطيك الف مليون
عافيه
لاخلاولاعدم
منك
-
تحياتي لك
-

ملآئكيه
05-10-2020, 06:20 PM
,,~

سلمت آناملك لروعة طرحهآ..
يعطِـــيكْ العَآفيَـــةْ..

,,~

عنيزاوي حنون
08-08-2020, 02:31 AM
سلمت ايدك ع الطرح
و الابداع والتواصل المستمر
في نشر الجديد والمفيد
أُحييك على اختيارك الرائع والمميز
تحياتي الك

عبدالله
08-09-2020, 09:47 PM
ا

ياملا العافية
شكرا لك

أميرة الذوق
08-09-2020, 10:41 PM
طرح جميل

سلمت الانامل