SaMeH-Des
09-07-2025, 03:39 PM
https://i13.servimg.com/u/f13/20/49/35/88/chatgp10.png
الفصل الأول : طريق إلى المجهول
انتشر الظلام والضباب بطريقة مخيفة في الطريق الصحراوي من القاهرة للإسكندرية ....
حتى أعمدة الإنارة كانت مطفأة ولم يعد قائد السيارة السوداء الضخمة يستطيع أن يرى حتى العلامات الموجودة على الطريق.
توقف علاء غالي غاضبًا متوترًا وهو يصيح بصوت مكتوم:
- "لا حول ولا قوة إلا بالله .. مكانش ناقصني غير دا كمان! مش كفاية يا رب عليّا فرح نادر اللي مش عارف هيعدي عليّا إزاي!"
تنهد بعصبية، فلقد حاول بشتى الطرق أن يأتي مبكرا، لكن العمل اللعين تراكم عليه ولم يستطع السفر سوى الآن.
وها هو في الطريق فقط إكرامًا لوالدته، التي أصرت أن يحضر فرح ابن عمه نادر، رغم أن علاقتهما دائمًا كانت سيئة... كالنار والماء.
ومع تسارع أفكاره، بدأ ماضيه يلاحقه، وخاصة "سالي" ذات العيون العسلية والشعر الأسود... المرأة التي أحبها بصدق، لكنها اختارت نادر!
وما أقسى أن يراها بعد ساعات قليلة زوجة لابن عمه وهو يقف متفرجًا...
وفجأة... وبينما الضباب يزداد كثافة، لمح شبح فتاة يظهر أمام السيارة!
ضغط المكابح بقوة، لكن الاصطدام كان حتميًا... نزل علاء بخوف ليفاجأ بفتاة ممددة على الأسفلت، الدماء تلطخ وجهها، لكنها مازالت على قيد الحياة.
حملها بسرعة إلى السيارة وهو يتمتم بفزع:
- "يا ساتر يا رب... لازم أوصلها المستشفى قبل فوات الأوان!"
لكن أفكاره لم تتركه، هل يذهب بها فعلًا إلى المستشفى، أم يغامر ويصطحبها معه بعيدًا عن الأنظار حتى يطمئن على حالتها؟
الزفاف ينتظره... والقدر يضع أمامه لغزًا جديدًا على الطريق المظلم.
وهكذا وجد نفسه ممزقًا بين الواجب... والمجهول.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثاني : الضيف الغامض
وضع علاء الفتاة في الفراش وهو غاضب، يدور في ذهنه مئات الأسئلة:
- "مين دي؟ جات منين في نص الطريق الصحراوي؟ وليه ظهرِت فجأة قدام العربية؟!"
كان يعرف أن ذهابه بها إلى المستشفى قد يورطه في تحقيقات لا تنتهي، لذلك قرر أن يصطحبها إلى الشاليه الخاص الذي يملكه، بعيدًا عن أعين العائلة وأجواء الفرح.
وقف يتأمل ملامحها البريئة وهي فاقدة الوعي، شعرها الطويل يتناثر على الوسادة، والجرح البسيط يزين وجهها بدماء جافة.
اقترب منها وهمس بقلق:
- "يا ترى إيه قصتك؟ وليه القدر جابك لحد عندي النهاردة بالذات؟"
تأوهت الفتاة فجأة وفتحت عينيها العسليتين للحظة، ثم همست بصوت ضعيف مرتبك:
- "أنا... فين؟!"
شعر علاء بارتباك شديد، حاول أن يهدئها:
- "متقلقيش... إنتي بخير. ارتاحي بس."
لكنها سرعان ما أغلقت عينيها من جديد وسقطت في غيبوبة قصيرة، تاركة علاء غارقًا بين الغموض والقلق.
جلس بجانبها متوترًا، وأمسك رأسه بيديه مفكرًا:
- "هو أنا لسه ناقصني ألغاز؟! فرح نادر، الماضي اللي بيطاردني، ودلوقتي ضيفة مجهولة في حياتي!"
رفع عينيه نحوها وهو يتنهد بمرارة، شاعرًا أن القدر ينسج له طريقًا جديدًا لا يعرف نهايته.
لكن... من تكون هذه الفتاة؟ وما الذي يخفيه ظهورها في هذا التوقيت بالذات؟!
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثالث : ظلال الماضي
وقف علاء أمام مرآة غرفته في بيت العائلة، يربط ربطة عنقه ببطء.
ملامحه المتعبة عكست ليالي من الصراع الداخلي، ورغم كل محاولاته للتماسك، لم يستطع أن يُخفي عينيه الغارقتين بالحزن.
لقد ترك الفتاة الغامضة في شاليهه وحيدة، مطمئنًا أنها بخير، لكنه لم يتوقف عن التفكير فيها طوال الطريق.
تنفس بعمق وقال لنفسه ساخرًا:
- "هو أنا ناقص وجع دماغ؟! عندي فرح نادر... ولسه مش عارف أتعامل مع وجودها في حياتي."
دخل إلى قاعة الزفاف، الأضواء باهرة، الموسيقى تعلو، والوجوه المبتسمة من حوله تُلقي عليه التحية.
لكنه شعر أن كل العيون تراقبه... همسات العائلة لا تفارقه:
"شوفوا... هو جاي متأخر كالعادة."
"إزاي يقدر يضحك وهو شايف سالي دلوقتي عروسة غيره؟"
التفتت عيناه إلى المسرح... هناك كانت سالي، ترتدي فستانًا أبيض يخطف الأنفاس.
جمالها زاده بريقًا غريبًا هذه الليلة، كأنها قمر محاط بالأنوار.
أحس قلبه ينقبض وهو يراها تبتسم لنادر، ابتسامة كان يتمنى أن تكون من نصيبه.
حاول أن يبتسم أمام الآخرين، لكنه داخليًا كان يحترق.
جلس بجوار والدته التي همست له بفرحة:
- "شوف يا علاء... نادر وسالي شكلهم زي القمر، ربنا يسعدهم يا بني."
أومأ برأسه فقط، محاولًا أن يخفي غضبه، وهو يتذكر تلك اللحظات التي جمعته بسالي.
كل كلمة، كل نظرة، كل وعد صامت بينهما... صار الآن مجرد ظل من الماضي.
لكن عقله رفض الاستسلام، فقد قفزت صورة الفتاة الغامضة إلى ذهنه.
من تكون؟ لماذا ظهرت في حياته بهذه الطريقة؟
هل هي مجرد صدفة؟ أم أن القدر يحاول أن يكتب له قصة جديدة؟
رفع نظره إلى سالي مرة أخيرة، ثم همس لنفسه بمرارة:
- "يمكن اللي بينّا انتهى... لكن الظلال عمرها ما بتموت."
هكذا وجد علاء نفسه ممزقًا بين نار الماضي... ولغز المستقبل.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الرابع : بين نارين
لم يكن علاء يملك ترف النوم تلك الليلة.
عاد من فرح نادر منهكًا، لكنه ما إن دخل إلى شاليهه حتى فوجئ بالفتاة الغامضة جالسة على الأريكة، تستند برأسها إلى الوسادة، تحدق في الفراغ بعينين زجاجيتين.
ارتبك للحظة قبل أن يقول بصوت هادئ:
- "إيه اللي صحّاك؟ المفروض ترتاحي."
رفعت رأسها ببطء، ثم تمتمت بصوت متقطع:
- "أنا... مش فاكرة حاجة... لا اسمي... ولا أنا جيت هنا إزاي."
نظر إليها علاء بدهشة، قلبه انقبض من وقع كلماتها.
فقدان ذاكرة؟ أم أنها تخفي شيئًا؟
جلس أمامها محاولًا أن يبدو مطمئنًا:
- "إهدي... أهم حاجة إنك بخير. مع الوقت كل حاجة هترجعلك."
لكن داخله كان يغلي.
كيف يخبر العائلة عن وجود فتاة مجهولة في بيته؟
كيف يشرح للشرطة حادثًا غريبًا وسط الضباب؟
وكيف يوازن بين صور سالي العروس، وهذه الفتاة التي اقتحمت حياته بلا استئذان؟
قام من مكانه وهو يدور في الغرفة، يحدث نفسه بعصبية:
- "أنا في ورطة كبيرة... لو سبتها ممكن يجرالها حاجة، ولو فضلت عندي الناس هتسأل. أنا بين نارين...!"
رفعت الفتاة نظرها إليه بخوف وقالت:
- "أنت مش هتسيبني... صح؟"
تجمد علاء في مكانه، شعر للحظة أن القدر يلعب به لعبة أكبر من طاقته.
اقترب منها ببطء، وقال بصوت غريب امتزج فيه الحنان بالغضب:
- "لأ... مش هسيبك. بس لازم أعرف... إنتي مين؟!"
لكنها لم تُجب.
واكتفى هو بالنظر إلى عينيها العميقتين، مدركًا أن حياته لن تعود كما كانت أبدًا.
بين نار الماضي... ونار الغموض الذي يقترب، علاء محاصر بلا مفر.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الخامس : يد من الظلال
جلس علاء في الشرفة، الليل يلف المكان بضباب كثيف، والبحر يهمس بأمواجه البعيدة.
لم يستطع عقله أن يهدأ، كلما تذكر عيني الفتاة الغامضة شعر أنه يغرق أكثر فأكثر في دوامة مظلمة.
فجأة، سمع حركة خفيفة خلفه.
التفت ليجدها واقفة عند باب الشرفة، شعرها يتطاير مع نسمة الليل، وعينيها تلمعان كمن يخرج من حلم بعيد.
قال بقلق:
- "لازم ترتاحي... لسه مش في حالة كويسة."
اقتربت منه خطوة، ثم همست بصوت مرتجف:
- "أنا... افتكرت حاجة."
تجمد في مكانه، قلبه بدأ يخفق بعنف.
اقترب أكثر وسألها:
- "إيه اللي افتكرتيه؟ قولي!"
وضعت يدها على رأسها كأنها تحاول الإمساك بخيط ضعيف في ذاكرتها، ثم نطقت بكلمات مبعثرة:
- "الدم... الضباب... وصوت بيناديني باسمي..."
اقترب منها علاء أكثر، أمسك بكتفيها برفق وقال بحدة:
- "اسمك إيه؟ حد كان معاكي؟!"
أغمضت عينيها فجأة، وصرخت بصوت مخنوق:
- "حد... شدني من الطريق... إيد سودة... إيد من الظلال!"
تراجع علاء بدهشة، شعر بقشعريرة تسري في جسده.
هل هي تهذي؟ أم أن ما تراه حقيقي؟
حاول تهدئتها، لكنه لم يستطع أن يتجاهل الخوف الذي زرعته كلماتها في قلبه.
جلس بعدها وهو يدفن وجهه بين يديه، يهمس لنفسه:
- "إيه اللي بيحصل؟! هي جتلي صدفة... ولا حد بيلعب بيا من ورا الستار؟!"
رفع نظره إليها، فوجدها تحدق فيه بنظرة غريبة... مزيج من الرجاء والتحذير.
هل كانت الفتاة ضحية قدر أعمى... أم مفتاحًا ليد من الظلال تحاول أن تمسك بحياته؟
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل السادس : أسرار على حافة الصمت
لم يذق علاء طعم النوم، ظل يتقلب في فراشه حتى طلوع الفجر.
كلما أغمض عينيه رأى مشهد الفتاة وهي تصرخ: "إيد من الظلال!"
هل هو مجرد هذيان؟ أم مفتاح لسر أكبر يحيط بها؟
مع أول ضوء صباح، قرر أن يبدأ رحلة البحث.
تركها نائمة في الشاليه، واتجه إلى السيارة متجهّم الملامح، يقوده فضوله وخوفه في آن واحد.
قاد إلى أقرب محطة وقود وسأل العامل هناك:
- "معلش يا عم، امبارح بالليل... شوفتوا حادث أو حد تاه في الطريق؟"
هز الرجل رأسه قائلاً:
- "لا يا باشمهندس... الطريق كان فاضي تمام، حتى العربيات قليلة جدًا."
زادت حيرة علاء. كيف ظهرت إذن؟ كأنها خرجت من العدم!
عاد أدراجه وهو يفكر:
- "لازم أعرف هي مين... وإيه اللي مخبيّه."
عند عودته، وجدها جالسة على الأرض بجوار النافذة، بين يديها سلسلة فضية صغيرة، تتأملها بتركيز شديد.
اقترب منها ببطء وقال:
- "دي سلسلتك؟"
رفعت نظرها إليه ببطء، كأنها انتبهت لوجوده بعد غياب، ثم همست:
- "أيوة... هي الحاجة الوحيدة اللي لقيتها معايا."
أخذها علاء بين يديه، تأمل النقش الدقيق على ظهرها... كان هناك حرفان متداخلان، لا يعرف إن كانا اسمًا أو رمزًا.
عاد يسألها:
- "طب إيه معنى الحروف دي؟ بتفكري في مين لما تبصي للسلسلة؟"
أطرقت برأسها ثم همست وكأنها تخاطب نفسها:
- "كل اللي فاكرته... إني كنت بجري... وكان في صوت بيناديني... وبعدين سكت كل حاجة."
جلس علاء أمامها، شعر أن الحقيقة أقرب من أي وقت مضى، لكنها لا تزال تختبئ على حافة الصمت.
رفع السلسلة أمام عينيه وقال بحزم:
- "هبدأ من هنا... حتى لو اضطرّيت أفتح أبواب الماضي كلها."
لكن... أي أسرار قد تكشفها تلك السلسلة؟ وهل سيكون علاء مستعدًا لمواجهة الحقيقة؟
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل السابع : عاصفة الحقيقة
كان علاء يقلب السلسلة بين يديه ليلًا ونهارًا، وكأنها بوصلته الوحيدة في هذا البحر المظلم.
كلما تأمل الحروف المنقوشة عليها، ازدادت قناعته أن ما يحدث ليس صدفة.
قرر أن يعرضها على صديقه القديم الدكتور سامر، أستاذ التاريخ والرموز في الجامعة.
استقبله سامر بابتسامة سريعة، لكن حين وقعت عيناه على السلسلة، تغير وجهه تمامًا.
قال بجدية:
- "علاء... انت متأكد إن دي لقيتها مع البنت؟"
أجابه علاء بقلق:
- "أيوة... ليه؟ تعرفها؟"
ابتسم سامر ابتسامة غامضة ثم قال:
- "الرمز ده مش مجرد حروف... دي علامة قديمة جدًا، كانت بتخص عيلة كبيرة في المدينة، اختفوا من زمان بعد حادث مأساوي."
تجمد علاء في مكانه:
- "عيلة؟! تقصد إن البنت دي... ممكن تكون واحدة منهم؟!"
أطرق سامر رأسه وقال بهدوء:
- "مش عايز أسبق الأحداث... بس لو استنتاجي صح، وجودها في حياتك مش مجرد صدفة."
عاد علاء إلى الشاليه وهو يشعر أن كل خطوة تقوده إلى إعصار قادم.
دخل ليجدها واقفة أمام المرآة، تحدق في انعكاسها بعينين دامعتين.
اقترب منها وهمس:
- "لقيت حاجة عن السلسلة... بس محتاج وقت عشان أتأكد."
التفتت إليه ببطء، وفي صوتها رعشة:
- "أنا... بدأت أفتكر... في بيت قديم... ونار... وصوت بيصرخ باسمي."
قبل أن يسألها، انقطع التيار الكهربائي فجأة، وغطى المكان ظلام دامس.
دوّى الرعد في السماء، وبدأ المطر يهطل بعنف.
أمسك علاء بيدها بقوة، شعر أنها ترتجف كأن الماضي كله عاد ليحاصرها في تلك اللحظة.
وبين صرخات الرعد، همست بصوت بالكاد يُسمع:
- "اسمي... مش زي ما بتظن... الحقيقة جاية... زي العاصفة."
في تلك الليلة... لم يكن علاء يعرف أن الحقيقة التي بحث عنها ستسقط فوقه كعاصفة لا ترحم.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثامن : بين النار والرماد
لم ينم علاء تلك الليلة. ظل جالسًا بجوارها، يراقب ملامحها المتوترة في الظلام، يتأمل ارتجاف أنفاسها وكأنها تطاردها أشباح لا يراها سواها.
مع أول خيوط الصباح، أيقظته على صوتها وهي تهمس:
- "علاء... أنا شُفت كابوس... بس حقيقي جدًا."
جلس بجوارها بقلق:
- "قوليلهولي."
أمسكت رأسها بكلتا يديها وكأنها تخشى أن يتسرب الألم من بين أصابعها، ثم قالت بصوت متقطع:
- "كنت واقفة في بيت قديم... النيران مولعة في كل مكان... وفي وسط الدخان شُفت وشوش... وشخص وقع على الأرض قدامي."
ازداد قلبه خفقانًا، فسألها بسرعة:
- "وشوش مين؟ تعرفيهم؟"
أجهشت بالبكاء:
- "مش متأكدة... بس كان في واحدة ست بتصرخ... وبتنده اسمي!"
صمت علاء، عقله يغلي بالأسئلة. تذكر كلام صديقه سامر عن العائلة القديمة التي اختفت بعد حادث مأساوي.
هل يكون الكابوس انعكاسًا لتلك الحادثة؟
قرر أن يأخذها في جولة بالسيارة لعل الطرق والأماكن توقظ ذاكرتها.
وبينما كانا يسيران عبر ضاحية قديمة على أطراف المدينة، توقفت فجأة وأمسكت بذراعه بشدة:
- "هنا! المكان ده... أنا عرفاه!"
نظر علاء إلى الطريق الترابي المظلم المؤدي إلى منزل شبه مهجور، جدرانه متصدعة وكأن النار قد التهمته يومًا ما.
شعر بقشعريرة تسري في جسده وهو يقول لنفسه:
- "النار... والرماد... كل ده مش صدفة."
اقترب منها وقال بهدوء:
- "لازم نعرف الحقيقة... حتى لو كانت مؤلمة."
رفعت رأسها نحوه، وعيناها تحملان مزيجًا من الخوف والرجاء، ثم همست:
- "يمكن النار دي خدت مني كل حاجة... لكن الرماد لسه مخبي السر."
وهكذا وقف علاء والفتاة أمام أطلال الماضي... بين النار والرماد، على أعتاب الحقيقة التي بدأت أخيرًا تكشف أنيابها.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل التاسع : البيت الذي ابتلع الصرخات
وقف علاء بجوار الفتاة أمام بوابة حديدية صدئة تكاد تتهاوى.
البيت أمامهما بدا كجثة ضخمة تنبض بذكريات ميتة، نوافذه المحطمة تشبه عيونًا تراقبهما، وجدرانه المتفحمة تحكي قصة حريق قديم.
قال علاء بصوت منخفض:
- "هل أنتِ متأكدة إن دا المكان؟"
أشارت برعشة في يدها:
- "أنا... حاسة إن روحي عايشة هنا... وكأنني كنت جزء من هذا البيت."
دفع علاء البوابة بصعوبة، فأصدرت صريرًا مخيفًا ارتد صداه في المكان.
خطواتهما داخل الممر المظلم كانت تتردد كأن البيت كله يستمع.
في الداخل، كان كل شيء مغطى بالغبار والرماد. أثاث محروق، صور عائلية متفحمة بالكاد تظهر منها ملامح الوجوه.
تقدمت الفتاة بخطوات مترددة نحو صورة نصف محترقة معلقة على الجدار، همست وهي تلمسها بأصابع مرتجفة:
- "دي... أمي؟!"
ارتجف قلب علاء وهو يراها تقترب أكثر من الصورة، وكأنها تستعيد جزءًا مفقودًا من حياتها.
وفجأة، سمعا صوت ارتطام من الطابق العلوي... صوت قوي، كأن شيئًا سقط عمدًا.
تجمدت الفتاة مكانها وقالت بخوف:
- "في حد فوق!"
أمسك علاء بذراعها محاولًا تهدئتها:
- "ممكن يكون مجرد هواء... أو حيوان."
لكن نظراته المتوترة فضحت شكوكه.
فالبيت لم يكن خاليًا كما اعتقد.
وفي تلك اللحظة، سمعا صرخة مكتومة تتردد بين الجدران، صرخة حقيقية هزت كيانهما.
نظر إليها علاء بعينين متسعتين وهمس:
- "دا مش بيت مهجور... دا بيت ابتلع الصرخات ولسه بيرجعها!"
وهنا أدركا أن دخولهما لم يكن مجرد بحث عن ذكريات... بل مواجهة مع سرٍّ حيّ، لا يزال يتنفس بين أنقاض البيت.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل العاشر : أصوات من العدم
سادت لحظة صمت ثقيل بعد الصرخة التي دوّت في أرجاء البيت.
لكن لم يدم الأمر طويلاً، إذ بدأ صوت غريب يتردد من الطابق العلوي... خليط بين بكاء مكتوم، وأنين متقطع، كأن الأرواح نفسها تتحدث.
اقترب علاء من السلم الخشبي المتهالك، نظر إلى الفتاة وقال:
- "استني هنا... أنا هاطلع أشوف."
أمسكت بذراعه بقوة، عيناها ممتلئتان بالذعر:
- "لا تسيبني... لو في حاجة فوق، نواجهها سوا."
تردد لحظة، ثم أومأ برأسه موافقًا.
صعدا السلم بخطوات بطيئة، ومع كل درجة يعلو الصوت أكثر، يتحول إلى كلمات مبعثرة...
"ارجع... الحق... الدم... النار..."
توقف علاء عند باب غرفة شبه محطمة، دفعه ببطء، فظهر لهما مشهد غريب:
غرفة محترقة، جدرانها مسوّدة، وفي المنتصف كرسي قديم يتأرجح وحده، يصدر صريرًا مزعجًا مع كل حركة، رغم أن النوافذ مغلقة ولا هواء يدخل.
شهقت الفتاة وهي تشير إلى ركن مظلم:
- "علاء... بص هناك!"
تتبّع نظرها، فشاهد كتابًا قديمًا محترق الأطراف ملقى على الأرض.
اقترب منه بحذر، وحين مد يده ليلتقطه... دوّى الصوت فجأة في الغرفة بصوت امرأة حاد:
"سيبوا البيت... سيبوااااا!"
اهتزت الجدران للحظة، وتساقط بعض الغبار من السقف.
تراجعت الفتاة للخلف ترتجف، بينما علاء شد قبضته على الكتاب وأعلن بحزم:
- "لأ... مش هنمشي قبل ما نعرف إيه اللي بيحصل."
وهكذا تحوّل البيت من مكان مهجور إلى ساحة مواجهة مع أصوات من العدم... أصوات تحمل رسالة غامضة، وأسرارًا دفينة لن تكشف إلا بالثمن.
الفصل الأول : طريق إلى المجهول
انتشر الظلام والضباب بطريقة مخيفة في الطريق الصحراوي من القاهرة للإسكندرية ....
حتى أعمدة الإنارة كانت مطفأة ولم يعد قائد السيارة السوداء الضخمة يستطيع أن يرى حتى العلامات الموجودة على الطريق.
توقف علاء غالي غاضبًا متوترًا وهو يصيح بصوت مكتوم:
- "لا حول ولا قوة إلا بالله .. مكانش ناقصني غير دا كمان! مش كفاية يا رب عليّا فرح نادر اللي مش عارف هيعدي عليّا إزاي!"
تنهد بعصبية، فلقد حاول بشتى الطرق أن يأتي مبكرا، لكن العمل اللعين تراكم عليه ولم يستطع السفر سوى الآن.
وها هو في الطريق فقط إكرامًا لوالدته، التي أصرت أن يحضر فرح ابن عمه نادر، رغم أن علاقتهما دائمًا كانت سيئة... كالنار والماء.
ومع تسارع أفكاره، بدأ ماضيه يلاحقه، وخاصة "سالي" ذات العيون العسلية والشعر الأسود... المرأة التي أحبها بصدق، لكنها اختارت نادر!
وما أقسى أن يراها بعد ساعات قليلة زوجة لابن عمه وهو يقف متفرجًا...
وفجأة... وبينما الضباب يزداد كثافة، لمح شبح فتاة يظهر أمام السيارة!
ضغط المكابح بقوة، لكن الاصطدام كان حتميًا... نزل علاء بخوف ليفاجأ بفتاة ممددة على الأسفلت، الدماء تلطخ وجهها، لكنها مازالت على قيد الحياة.
حملها بسرعة إلى السيارة وهو يتمتم بفزع:
- "يا ساتر يا رب... لازم أوصلها المستشفى قبل فوات الأوان!"
لكن أفكاره لم تتركه، هل يذهب بها فعلًا إلى المستشفى، أم يغامر ويصطحبها معه بعيدًا عن الأنظار حتى يطمئن على حالتها؟
الزفاف ينتظره... والقدر يضع أمامه لغزًا جديدًا على الطريق المظلم.
وهكذا وجد نفسه ممزقًا بين الواجب... والمجهول.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثاني : الضيف الغامض
وضع علاء الفتاة في الفراش وهو غاضب، يدور في ذهنه مئات الأسئلة:
- "مين دي؟ جات منين في نص الطريق الصحراوي؟ وليه ظهرِت فجأة قدام العربية؟!"
كان يعرف أن ذهابه بها إلى المستشفى قد يورطه في تحقيقات لا تنتهي، لذلك قرر أن يصطحبها إلى الشاليه الخاص الذي يملكه، بعيدًا عن أعين العائلة وأجواء الفرح.
وقف يتأمل ملامحها البريئة وهي فاقدة الوعي، شعرها الطويل يتناثر على الوسادة، والجرح البسيط يزين وجهها بدماء جافة.
اقترب منها وهمس بقلق:
- "يا ترى إيه قصتك؟ وليه القدر جابك لحد عندي النهاردة بالذات؟"
تأوهت الفتاة فجأة وفتحت عينيها العسليتين للحظة، ثم همست بصوت ضعيف مرتبك:
- "أنا... فين؟!"
شعر علاء بارتباك شديد، حاول أن يهدئها:
- "متقلقيش... إنتي بخير. ارتاحي بس."
لكنها سرعان ما أغلقت عينيها من جديد وسقطت في غيبوبة قصيرة، تاركة علاء غارقًا بين الغموض والقلق.
جلس بجانبها متوترًا، وأمسك رأسه بيديه مفكرًا:
- "هو أنا لسه ناقصني ألغاز؟! فرح نادر، الماضي اللي بيطاردني، ودلوقتي ضيفة مجهولة في حياتي!"
رفع عينيه نحوها وهو يتنهد بمرارة، شاعرًا أن القدر ينسج له طريقًا جديدًا لا يعرف نهايته.
لكن... من تكون هذه الفتاة؟ وما الذي يخفيه ظهورها في هذا التوقيت بالذات؟!
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثالث : ظلال الماضي
وقف علاء أمام مرآة غرفته في بيت العائلة، يربط ربطة عنقه ببطء.
ملامحه المتعبة عكست ليالي من الصراع الداخلي، ورغم كل محاولاته للتماسك، لم يستطع أن يُخفي عينيه الغارقتين بالحزن.
لقد ترك الفتاة الغامضة في شاليهه وحيدة، مطمئنًا أنها بخير، لكنه لم يتوقف عن التفكير فيها طوال الطريق.
تنفس بعمق وقال لنفسه ساخرًا:
- "هو أنا ناقص وجع دماغ؟! عندي فرح نادر... ولسه مش عارف أتعامل مع وجودها في حياتي."
دخل إلى قاعة الزفاف، الأضواء باهرة، الموسيقى تعلو، والوجوه المبتسمة من حوله تُلقي عليه التحية.
لكنه شعر أن كل العيون تراقبه... همسات العائلة لا تفارقه:
"شوفوا... هو جاي متأخر كالعادة."
"إزاي يقدر يضحك وهو شايف سالي دلوقتي عروسة غيره؟"
التفتت عيناه إلى المسرح... هناك كانت سالي، ترتدي فستانًا أبيض يخطف الأنفاس.
جمالها زاده بريقًا غريبًا هذه الليلة، كأنها قمر محاط بالأنوار.
أحس قلبه ينقبض وهو يراها تبتسم لنادر، ابتسامة كان يتمنى أن تكون من نصيبه.
حاول أن يبتسم أمام الآخرين، لكنه داخليًا كان يحترق.
جلس بجوار والدته التي همست له بفرحة:
- "شوف يا علاء... نادر وسالي شكلهم زي القمر، ربنا يسعدهم يا بني."
أومأ برأسه فقط، محاولًا أن يخفي غضبه، وهو يتذكر تلك اللحظات التي جمعته بسالي.
كل كلمة، كل نظرة، كل وعد صامت بينهما... صار الآن مجرد ظل من الماضي.
لكن عقله رفض الاستسلام، فقد قفزت صورة الفتاة الغامضة إلى ذهنه.
من تكون؟ لماذا ظهرت في حياته بهذه الطريقة؟
هل هي مجرد صدفة؟ أم أن القدر يحاول أن يكتب له قصة جديدة؟
رفع نظره إلى سالي مرة أخيرة، ثم همس لنفسه بمرارة:
- "يمكن اللي بينّا انتهى... لكن الظلال عمرها ما بتموت."
هكذا وجد علاء نفسه ممزقًا بين نار الماضي... ولغز المستقبل.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الرابع : بين نارين
لم يكن علاء يملك ترف النوم تلك الليلة.
عاد من فرح نادر منهكًا، لكنه ما إن دخل إلى شاليهه حتى فوجئ بالفتاة الغامضة جالسة على الأريكة، تستند برأسها إلى الوسادة، تحدق في الفراغ بعينين زجاجيتين.
ارتبك للحظة قبل أن يقول بصوت هادئ:
- "إيه اللي صحّاك؟ المفروض ترتاحي."
رفعت رأسها ببطء، ثم تمتمت بصوت متقطع:
- "أنا... مش فاكرة حاجة... لا اسمي... ولا أنا جيت هنا إزاي."
نظر إليها علاء بدهشة، قلبه انقبض من وقع كلماتها.
فقدان ذاكرة؟ أم أنها تخفي شيئًا؟
جلس أمامها محاولًا أن يبدو مطمئنًا:
- "إهدي... أهم حاجة إنك بخير. مع الوقت كل حاجة هترجعلك."
لكن داخله كان يغلي.
كيف يخبر العائلة عن وجود فتاة مجهولة في بيته؟
كيف يشرح للشرطة حادثًا غريبًا وسط الضباب؟
وكيف يوازن بين صور سالي العروس، وهذه الفتاة التي اقتحمت حياته بلا استئذان؟
قام من مكانه وهو يدور في الغرفة، يحدث نفسه بعصبية:
- "أنا في ورطة كبيرة... لو سبتها ممكن يجرالها حاجة، ولو فضلت عندي الناس هتسأل. أنا بين نارين...!"
رفعت الفتاة نظرها إليه بخوف وقالت:
- "أنت مش هتسيبني... صح؟"
تجمد علاء في مكانه، شعر للحظة أن القدر يلعب به لعبة أكبر من طاقته.
اقترب منها ببطء، وقال بصوت غريب امتزج فيه الحنان بالغضب:
- "لأ... مش هسيبك. بس لازم أعرف... إنتي مين؟!"
لكنها لم تُجب.
واكتفى هو بالنظر إلى عينيها العميقتين، مدركًا أن حياته لن تعود كما كانت أبدًا.
بين نار الماضي... ونار الغموض الذي يقترب، علاء محاصر بلا مفر.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الخامس : يد من الظلال
جلس علاء في الشرفة، الليل يلف المكان بضباب كثيف، والبحر يهمس بأمواجه البعيدة.
لم يستطع عقله أن يهدأ، كلما تذكر عيني الفتاة الغامضة شعر أنه يغرق أكثر فأكثر في دوامة مظلمة.
فجأة، سمع حركة خفيفة خلفه.
التفت ليجدها واقفة عند باب الشرفة، شعرها يتطاير مع نسمة الليل، وعينيها تلمعان كمن يخرج من حلم بعيد.
قال بقلق:
- "لازم ترتاحي... لسه مش في حالة كويسة."
اقتربت منه خطوة، ثم همست بصوت مرتجف:
- "أنا... افتكرت حاجة."
تجمد في مكانه، قلبه بدأ يخفق بعنف.
اقترب أكثر وسألها:
- "إيه اللي افتكرتيه؟ قولي!"
وضعت يدها على رأسها كأنها تحاول الإمساك بخيط ضعيف في ذاكرتها، ثم نطقت بكلمات مبعثرة:
- "الدم... الضباب... وصوت بيناديني باسمي..."
اقترب منها علاء أكثر، أمسك بكتفيها برفق وقال بحدة:
- "اسمك إيه؟ حد كان معاكي؟!"
أغمضت عينيها فجأة، وصرخت بصوت مخنوق:
- "حد... شدني من الطريق... إيد سودة... إيد من الظلال!"
تراجع علاء بدهشة، شعر بقشعريرة تسري في جسده.
هل هي تهذي؟ أم أن ما تراه حقيقي؟
حاول تهدئتها، لكنه لم يستطع أن يتجاهل الخوف الذي زرعته كلماتها في قلبه.
جلس بعدها وهو يدفن وجهه بين يديه، يهمس لنفسه:
- "إيه اللي بيحصل؟! هي جتلي صدفة... ولا حد بيلعب بيا من ورا الستار؟!"
رفع نظره إليها، فوجدها تحدق فيه بنظرة غريبة... مزيج من الرجاء والتحذير.
هل كانت الفتاة ضحية قدر أعمى... أم مفتاحًا ليد من الظلال تحاول أن تمسك بحياته؟
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل السادس : أسرار على حافة الصمت
لم يذق علاء طعم النوم، ظل يتقلب في فراشه حتى طلوع الفجر.
كلما أغمض عينيه رأى مشهد الفتاة وهي تصرخ: "إيد من الظلال!"
هل هو مجرد هذيان؟ أم مفتاح لسر أكبر يحيط بها؟
مع أول ضوء صباح، قرر أن يبدأ رحلة البحث.
تركها نائمة في الشاليه، واتجه إلى السيارة متجهّم الملامح، يقوده فضوله وخوفه في آن واحد.
قاد إلى أقرب محطة وقود وسأل العامل هناك:
- "معلش يا عم، امبارح بالليل... شوفتوا حادث أو حد تاه في الطريق؟"
هز الرجل رأسه قائلاً:
- "لا يا باشمهندس... الطريق كان فاضي تمام، حتى العربيات قليلة جدًا."
زادت حيرة علاء. كيف ظهرت إذن؟ كأنها خرجت من العدم!
عاد أدراجه وهو يفكر:
- "لازم أعرف هي مين... وإيه اللي مخبيّه."
عند عودته، وجدها جالسة على الأرض بجوار النافذة، بين يديها سلسلة فضية صغيرة، تتأملها بتركيز شديد.
اقترب منها ببطء وقال:
- "دي سلسلتك؟"
رفعت نظرها إليه ببطء، كأنها انتبهت لوجوده بعد غياب، ثم همست:
- "أيوة... هي الحاجة الوحيدة اللي لقيتها معايا."
أخذها علاء بين يديه، تأمل النقش الدقيق على ظهرها... كان هناك حرفان متداخلان، لا يعرف إن كانا اسمًا أو رمزًا.
عاد يسألها:
- "طب إيه معنى الحروف دي؟ بتفكري في مين لما تبصي للسلسلة؟"
أطرقت برأسها ثم همست وكأنها تخاطب نفسها:
- "كل اللي فاكرته... إني كنت بجري... وكان في صوت بيناديني... وبعدين سكت كل حاجة."
جلس علاء أمامها، شعر أن الحقيقة أقرب من أي وقت مضى، لكنها لا تزال تختبئ على حافة الصمت.
رفع السلسلة أمام عينيه وقال بحزم:
- "هبدأ من هنا... حتى لو اضطرّيت أفتح أبواب الماضي كلها."
لكن... أي أسرار قد تكشفها تلك السلسلة؟ وهل سيكون علاء مستعدًا لمواجهة الحقيقة؟
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل السابع : عاصفة الحقيقة
كان علاء يقلب السلسلة بين يديه ليلًا ونهارًا، وكأنها بوصلته الوحيدة في هذا البحر المظلم.
كلما تأمل الحروف المنقوشة عليها، ازدادت قناعته أن ما يحدث ليس صدفة.
قرر أن يعرضها على صديقه القديم الدكتور سامر، أستاذ التاريخ والرموز في الجامعة.
استقبله سامر بابتسامة سريعة، لكن حين وقعت عيناه على السلسلة، تغير وجهه تمامًا.
قال بجدية:
- "علاء... انت متأكد إن دي لقيتها مع البنت؟"
أجابه علاء بقلق:
- "أيوة... ليه؟ تعرفها؟"
ابتسم سامر ابتسامة غامضة ثم قال:
- "الرمز ده مش مجرد حروف... دي علامة قديمة جدًا، كانت بتخص عيلة كبيرة في المدينة، اختفوا من زمان بعد حادث مأساوي."
تجمد علاء في مكانه:
- "عيلة؟! تقصد إن البنت دي... ممكن تكون واحدة منهم؟!"
أطرق سامر رأسه وقال بهدوء:
- "مش عايز أسبق الأحداث... بس لو استنتاجي صح، وجودها في حياتك مش مجرد صدفة."
عاد علاء إلى الشاليه وهو يشعر أن كل خطوة تقوده إلى إعصار قادم.
دخل ليجدها واقفة أمام المرآة، تحدق في انعكاسها بعينين دامعتين.
اقترب منها وهمس:
- "لقيت حاجة عن السلسلة... بس محتاج وقت عشان أتأكد."
التفتت إليه ببطء، وفي صوتها رعشة:
- "أنا... بدأت أفتكر... في بيت قديم... ونار... وصوت بيصرخ باسمي."
قبل أن يسألها، انقطع التيار الكهربائي فجأة، وغطى المكان ظلام دامس.
دوّى الرعد في السماء، وبدأ المطر يهطل بعنف.
أمسك علاء بيدها بقوة، شعر أنها ترتجف كأن الماضي كله عاد ليحاصرها في تلك اللحظة.
وبين صرخات الرعد، همست بصوت بالكاد يُسمع:
- "اسمي... مش زي ما بتظن... الحقيقة جاية... زي العاصفة."
في تلك الليلة... لم يكن علاء يعرف أن الحقيقة التي بحث عنها ستسقط فوقه كعاصفة لا ترحم.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل الثامن : بين النار والرماد
لم ينم علاء تلك الليلة. ظل جالسًا بجوارها، يراقب ملامحها المتوترة في الظلام، يتأمل ارتجاف أنفاسها وكأنها تطاردها أشباح لا يراها سواها.
مع أول خيوط الصباح، أيقظته على صوتها وهي تهمس:
- "علاء... أنا شُفت كابوس... بس حقيقي جدًا."
جلس بجوارها بقلق:
- "قوليلهولي."
أمسكت رأسها بكلتا يديها وكأنها تخشى أن يتسرب الألم من بين أصابعها، ثم قالت بصوت متقطع:
- "كنت واقفة في بيت قديم... النيران مولعة في كل مكان... وفي وسط الدخان شُفت وشوش... وشخص وقع على الأرض قدامي."
ازداد قلبه خفقانًا، فسألها بسرعة:
- "وشوش مين؟ تعرفيهم؟"
أجهشت بالبكاء:
- "مش متأكدة... بس كان في واحدة ست بتصرخ... وبتنده اسمي!"
صمت علاء، عقله يغلي بالأسئلة. تذكر كلام صديقه سامر عن العائلة القديمة التي اختفت بعد حادث مأساوي.
هل يكون الكابوس انعكاسًا لتلك الحادثة؟
قرر أن يأخذها في جولة بالسيارة لعل الطرق والأماكن توقظ ذاكرتها.
وبينما كانا يسيران عبر ضاحية قديمة على أطراف المدينة، توقفت فجأة وأمسكت بذراعه بشدة:
- "هنا! المكان ده... أنا عرفاه!"
نظر علاء إلى الطريق الترابي المظلم المؤدي إلى منزل شبه مهجور، جدرانه متصدعة وكأن النار قد التهمته يومًا ما.
شعر بقشعريرة تسري في جسده وهو يقول لنفسه:
- "النار... والرماد... كل ده مش صدفة."
اقترب منها وقال بهدوء:
- "لازم نعرف الحقيقة... حتى لو كانت مؤلمة."
رفعت رأسها نحوه، وعيناها تحملان مزيجًا من الخوف والرجاء، ثم همست:
- "يمكن النار دي خدت مني كل حاجة... لكن الرماد لسه مخبي السر."
وهكذا وقف علاء والفتاة أمام أطلال الماضي... بين النار والرماد، على أعتاب الحقيقة التي بدأت أخيرًا تكشف أنيابها.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل التاسع : البيت الذي ابتلع الصرخات
وقف علاء بجوار الفتاة أمام بوابة حديدية صدئة تكاد تتهاوى.
البيت أمامهما بدا كجثة ضخمة تنبض بذكريات ميتة، نوافذه المحطمة تشبه عيونًا تراقبهما، وجدرانه المتفحمة تحكي قصة حريق قديم.
قال علاء بصوت منخفض:
- "هل أنتِ متأكدة إن دا المكان؟"
أشارت برعشة في يدها:
- "أنا... حاسة إن روحي عايشة هنا... وكأنني كنت جزء من هذا البيت."
دفع علاء البوابة بصعوبة، فأصدرت صريرًا مخيفًا ارتد صداه في المكان.
خطواتهما داخل الممر المظلم كانت تتردد كأن البيت كله يستمع.
في الداخل، كان كل شيء مغطى بالغبار والرماد. أثاث محروق، صور عائلية متفحمة بالكاد تظهر منها ملامح الوجوه.
تقدمت الفتاة بخطوات مترددة نحو صورة نصف محترقة معلقة على الجدار، همست وهي تلمسها بأصابع مرتجفة:
- "دي... أمي؟!"
ارتجف قلب علاء وهو يراها تقترب أكثر من الصورة، وكأنها تستعيد جزءًا مفقودًا من حياتها.
وفجأة، سمعا صوت ارتطام من الطابق العلوي... صوت قوي، كأن شيئًا سقط عمدًا.
تجمدت الفتاة مكانها وقالت بخوف:
- "في حد فوق!"
أمسك علاء بذراعها محاولًا تهدئتها:
- "ممكن يكون مجرد هواء... أو حيوان."
لكن نظراته المتوترة فضحت شكوكه.
فالبيت لم يكن خاليًا كما اعتقد.
وفي تلك اللحظة، سمعا صرخة مكتومة تتردد بين الجدران، صرخة حقيقية هزت كيانهما.
نظر إليها علاء بعينين متسعتين وهمس:
- "دا مش بيت مهجور... دا بيت ابتلع الصرخات ولسه بيرجعها!"
وهنا أدركا أن دخولهما لم يكن مجرد بحث عن ذكريات... بل مواجهة مع سرٍّ حيّ، لا يزال يتنفس بين أنقاض البيت.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفصل العاشر : أصوات من العدم
سادت لحظة صمت ثقيل بعد الصرخة التي دوّت في أرجاء البيت.
لكن لم يدم الأمر طويلاً، إذ بدأ صوت غريب يتردد من الطابق العلوي... خليط بين بكاء مكتوم، وأنين متقطع، كأن الأرواح نفسها تتحدث.
اقترب علاء من السلم الخشبي المتهالك، نظر إلى الفتاة وقال:
- "استني هنا... أنا هاطلع أشوف."
أمسكت بذراعه بقوة، عيناها ممتلئتان بالذعر:
- "لا تسيبني... لو في حاجة فوق، نواجهها سوا."
تردد لحظة، ثم أومأ برأسه موافقًا.
صعدا السلم بخطوات بطيئة، ومع كل درجة يعلو الصوت أكثر، يتحول إلى كلمات مبعثرة...
"ارجع... الحق... الدم... النار..."
توقف علاء عند باب غرفة شبه محطمة، دفعه ببطء، فظهر لهما مشهد غريب:
غرفة محترقة، جدرانها مسوّدة، وفي المنتصف كرسي قديم يتأرجح وحده، يصدر صريرًا مزعجًا مع كل حركة، رغم أن النوافذ مغلقة ولا هواء يدخل.
شهقت الفتاة وهي تشير إلى ركن مظلم:
- "علاء... بص هناك!"
تتبّع نظرها، فشاهد كتابًا قديمًا محترق الأطراف ملقى على الأرض.
اقترب منه بحذر، وحين مد يده ليلتقطه... دوّى الصوت فجأة في الغرفة بصوت امرأة حاد:
"سيبوا البيت... سيبوااااا!"
اهتزت الجدران للحظة، وتساقط بعض الغبار من السقف.
تراجعت الفتاة للخلف ترتجف، بينما علاء شد قبضته على الكتاب وأعلن بحزم:
- "لأ... مش هنمشي قبل ما نعرف إيه اللي بيحصل."
وهكذا تحوّل البيت من مكان مهجور إلى ساحة مواجهة مع أصوات من العدم... أصوات تحمل رسالة غامضة، وأسرارًا دفينة لن تكشف إلا بالثمن.