المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المرج والمقهى !


السمهري
06-22-2025, 10:54 PM
كان منذ ريعانه يعوجُ على ذلك المقهى الذي كان فيما مضى مرجًا يلهو به ويلتقي مع من شغفته فيه ، ويعدو فوق الوهد وهي تتبعه ثم يصعد الرابية فتنتظره في الأسفل لكي ينزل ، فيقهقه ويستلقي على ظهره ويرنو إلى السماء والسعادة تكاد تنبجس من قلبه !
يندر أن يمضي يومٌ ولم يُلْممْ به ، وفي أحد الأيام فوجئ بتلك النَّصَفِ جالسة على الطاولة ! رافعة فنجان القهوة تحتسيه وعيناها تطالع كتابًا !
أحد النظر إليها ولم ينبس ببنتِ شفة ، ومذْ ذلك اليوم حرص أن يأتي باكرًا ويجلسَ في مكانٍ قصيٍّ يرقبها من حيث لا تشعر ! وإذا بدأ رواد المقهى بالانفضاض انفض مع أوائلهم !
مُذْ ذلكَ اليوم والحنين والخشية يعتلجان بقلبه فطورًا وطورًا ! وكان مع هذا يأتي باكرًا ويمضي مع أوائل المنفضين ، ولم يفجأه في أحد الأيام إلا وردة موضوعة على الأصيص فوق طاولته !
اختلس النظر إلى طاولة النَّصَفِ فلم يرها ، وأجال ناظره في المكان فلم ير لها أثرًا ، وبعد مضي بعض الوقت أتتْ وكعادتها فنجان قهوة وكتاب !
أطال النظر إليها خلسة ، والذكرى تمر أمام ناظريه وفي قلبه يعتلج ما يعتلج ، ومع هذا ظل قابعًا مكانه وطلب كوب شاي أتبعه بآخر ، وبعدها نهض ومضى صوب الباب ، وتوقف قليلًا ، ونظر إليها ، ثم اعتدل وخرج .
لم يقرَّ له قرارٌ تلك الليلة في منزله ، فخرج واتجه صوب الرابية ، وصعد إليها وهبَّتْ نسماتُ المساء العليلة مضمَّخةً بذكرى من لم تبرح عقله وقلبه ، فقال : الدنيا تُفرِّقُ أكثر مما تجمع ! وتُقصي أكثر مما تُدني ! وتُشجي أكثر مما تسعدُ ! واجتماعنا بعد هذا العمر إنما هو اجتماع الكمد والفراق والتشفِّي ! وإني لماضٍ إلى حيث الخلوة التي لن تطول حتى يَأْزَفَ خروجي الذي لا أوبه منه مدى الدهر ! فمتى تهبُّ الرياح لتأخذ هذه اللعاعة بين جنبي وتمضي بها إلى حيث طال حنيني في الموطن الذي سبقني إليه أحبائي ؟!
أطال النظر إلى البدر المكتمل ، وهو يرى فيه من شغفته ، فقال : لستُ أختلسُ النظر إليكِ وأنتِ قادمةٌ ! بل كنتُ أختلسُ النظر إلى شمس حياتي ، وبدر ليلي وربيع دنياي ومجرة سروري البعيدة المنال !
لما بدأت النجوم يالأفول انحدر من الرابية ، وهو يقول : -وايم الحق- لم يعد لتغريد بلابل الوصل معنى بعد هذا العمر الذي آن فيه الاستعداد لذلك الشقِّ وما فيه من أهوال !
وصل منزله بعيد الفجر ، فأخلد للمبيت وقبيل الظهر أفاق من نومه ، وبعد أداء الصلاة قر عزمه على ما يرى أنه لابدَّ منه ، فاتجه إلى طاولته وأخرج الورق وأمسك القلم ، وبدأ يكتبُ : مُذْ مضيتِ عن القرية وأنتِ لي في حلكة الشجى أنسًا وسرورًا ! وفي غمرة القنوط بدر أملٍ يضيءُ ويجلو جحافله ! وإني لأذكركِ خاليًا فترتسم البسمة على محياي وينساب السرور في قلبي ! وتروضُ يباب الأمل القاحلة !
مُذْ مضيتِ والعوج على المرج المنبسط لي فيه بعض السلوى فسليه وسلي التلال الممتدة عن سيري فيها ومناجاتي لأحجارها وأشجارها وعنادلها وبثي لها صبابات قلبي ووجده !
أما عدونا على سفوحها الممتدة ؟! أما مددنا أكفَّنا الصغيرة حتى تمتلئ بالغيث ثم نشربها بأنس وسرور ؟! أما كنا نستكن تحت أيكة اللقاء ؟! بل أيكة السرور والبهجة والطهر والبراءة ، ثم أنحني فوق رأسكِ لأقيكِ من المطر ؟! أما كنتِ تطرقين علينا الباب لنذهبَ معًا إلى الرابية والتلال للعدو واللعب ، وحينًا أنا من يطرق الباب ؟! أما كنتُ أختلسُ بعض النقود من خزانة أبي لأشتري لكِ بعض ما يأتي به الباعة المتجولون وأهديكِ إياه ؟! أما ... ؟! أما ... ؟!
سلي هذا المرج كم عجتُ عليه في ريعاني –بعد ظعونكِ- وشبابي وغرة كهولتي مرجًا وحوانيت ومقهى ، وما دعاني إلى العوج عليه إلا هواكِ والحنين إليكِ والغدو مع محياكِ العذب والرواح مع ذكراكِ في عهد الطفولة العذب النقي –كقلبكِ- ، وطالما وددتُ من كل قلبي -في عمري الذي مضى- أن أُبهجَ ناظري بمحيَّاكِ العذبِ البديع ، وقلبي بالوصل الذي حال دونه أمد النأي الذي لم ينقضِ ، وأشنِّفَ سمعي من عذب حديثكِ ! أما الآن فحيل بين الهوى والوصل بضباب الخشية والندم والرنو إلى الأمام ومضي الشمس صوب الأصيل ، واستبدلتُ بالدموع التي كانتْ تنهمرُ من الحنين وشجي الشعر ، دموع الخشية والندم وما يطرق سمعي مما يزلزلُ !
طوى الورقة ووضعها في ظرف وضعه في جيبه وبعد العصر مضى صوب المقهى ، واتخذ مكانه المعتاد واحتسى بضعة أكواب من الشاي ، وعيناه على الباب حتى رآها تدلفُ وتتخذُ مكانها المعتاد ، فنهض واستدار وخطى بضع خطوات نحوها ، وتوقف فجأة يقدِّمُ رجلًا ويُؤخرُ أخرى !
لبث برهة على هذه الحال ، حتى غلبه ذلك الأمرُ فاستدعى النادل وأعطاه الظرف وطلب منه أن يسلمه لتلك النَّصفِ بعد ذهابه !
لما دنى الأصيل دفع ثمن القهوة والشاي وانصرف ، فاتجه النادل بالظرف إليها ، وسلمها إياه ، ففضته وقرأتْ الرسالة فطفرتِ الدموع من عينيها وهي تقرأ ما تقرأ ، وبحثتْ عنه في المقهى فلم تجده فخرجتْ وعدتْ إلى الرابية ، فرأته مستقبلًا الشمس المائلة للغروب ويمضي صوبها ، ويقول :

نَعْمْ آَنَ صَحْوي مِنْ غَيَاهبِ دُجْنَةٍ
وَصَرْمُ ثِيَابِ الرَّانِ قَبْلَ اغْترَابي

وكان آخر عهدها به !

29/8/1446 هـ 16 : 11 ليلًا !

Mili
06-23-2025, 12:35 PM
ماشاء الله قصه جميله
استمتعت وانا أقرأها
فيها كميه غموض
واحداث متسيره تسيير ممتاز
اعجبت بسردك
ننتظر المزيد
وشكرا لك:98::10:

نايف
06-23-2025, 11:27 PM
عودا حميدا اخونا الرائع عبدالعزيز
فقد افتقدنا حضورك الباذخ والمختلف دائما
وسعدنا بعودتك الجميله الينا فأهلا بك
واهلا بمعزوفتك الادبيه الجميله
التي فيها عبرت فيها عن مشاعر عميقه
من الحنين والالم ..
كل عباره حملت صدى لفقد وأمل ضائع
تلك الذكريات التي رويتها هي بمثابة جسر
بين الماضي والحاضر
تذكرنا بحلاوة اللقاءات وبمرارة الفراق
الحنين ليس مجرد شعور بل هو حياة
تملأ الفراغات وتضج بالحياة رغم الجروح
هنا كان التعبير رائع جدا عن هذا الصراع الداخلي
بين الرغبة في العودة وبين الخوف من المستقبل
ابدعت استاذي كعادتك
تقبل اعجابي وتقديري والنجوم الخمس

عهُود
06-24-2025, 12:31 AM
حقاً لا أعلم كم مرة قرأت هذه التحفة
نعم، تحفة فنية ولا أبالغ
من تلك النصوص التي لا تُقرأ مرة واحدة
ولعلك تندهش إن قلت أن يوماً كاملاً مضى
ولم يجرؤ أحد على الرد إلا اثنان قبلي خجلاً وليس اهمالاً
ما كتبت هنا لم يترك للردود مساحة آمنة
كأن كل حرف فيه يهمس
"إياك أن تفسد علي سكوتي برد لا يجيد الاصغاء"

فيه من العذوبة مالا يشبه هذا الزمن
وفيه من الصدق مالا يُرى في حكايات الحب المعتادة
كتب كمن يضع قلبه على المنضدة
ليمنحنا فرصة النظر إليه كما هو دون أقنعة
كل جملة فيه تجرك للأخرى دون أن تشعر
لم تكن القصة عن رجل و امرأة
بل عن المدى الذي قد يبلغه الوفاء حين يتأخر اللقاء

ممتنة لهذا النص
لأنه أيقظ شيئاً فينا كان قد هدأ طويلاً
هدأ ولم يمت

شكراً لمجتمع غلاك الذي قادني إلى هنا
إلى اسم كنت أراه يتردد في المنتديات
كظل لا يُطاول، لطالما عبرته بعيني
ولم أجرؤ يوماً على المرور أمام مواضيعه
يسرني أني وصلت ولو متأخرة
وأني قرأت ولو على استحياء
لا أخفيك كلما مر بي اسم "عبدالعزيز التويجري"
لهج لساني بالدعاء لـ خالد لا إرادياً
هنيئاً له بأن ترك خلفه اسماً لا يُقرأ إلا ويُتبع بدعاء له
وبأن فيك من الوفاء ما يجعل من يعرفك يدعو له
حتى من لم يعرف خالد
يعرفه من طريقة عبدالعزيز في ذكره
من الدعاء الذي لا يُفارق حديثه
من الوفاء الذي علق اسمه بكل أثر جميل يكتبه


أعلم أن هذا ليس الوقت المناسب لذكر ذلك
لكن قال لي أحدهم ذات مرة أني أملك القدرة على قول كل شيء دفعة واحدة
ويبدو أنه محق في ذلك

أعتذر على الإطالة
وما أطلت إلا لأن الحرف أمامك لا يمر خفيفاً
دمت مبدعاً.

السمهري
06-24-2025, 05:01 PM
الموقرة Mili :أضفتِ بتعقيبكِ البديع على النصِّ بهاءً لمن يكن فيه ، فرضي الله عنكِ وأرضاكِ وأسعدكِ سعادة الدارين (امتناني الجم) .

السمهري
06-24-2025, 05:04 PM
وأهلًا بأخٍ أُكنُّ له كل محبة وتقدير .
أخي العزيز نايف : حين أقرأُ لكَ تعقيبًا أقول : ما شاء الله تبارك الله ! ما هذا القلم وما هذا الأسلوب الذي حبي إياه (هناكَ تعقيباتٌ أعودُ إليها كثيرًا رغم مضي السنوات لأنها من أبلغ وأروع ما قرأتُ ! ولأني أستمدُّ منها العزم في الكتابة حين يدلهمُّ ليل القنوط ويمتدُّ جهام السأم) وتعقيباتكَ في طليعتها !
أخي العزيز نايف : والرب أنكَ عزيزٌ علي أثيرٌ لدي ، وأنَّ معرفتكَ من مآثر الانترنت التي لا تُنكرُ فرضي الله عنكَ وأرضاكَ وأسبغ عليكَ نعمه وجعلكَ من الفائزين برحمته ومغفرته وفردوسه (امتنان أخيك الجم امتنان أخيك الجم امتنان أخيك الجم) .

جزيل الشكر أخي لكرمكَ الفياض :125::125::125:

السمهري
06-24-2025, 05:08 PM
أختي الموقرة أختي الموقرة أختي الموقرة balh: تعقيبكِ البديعُ مضى بي إلى تلك الرياض المخضلة والبساتين الوارفة والعنادل الشادية والجداول المنسابة حين كان البدر في كبد السماء والنجوم مزدانة ونسمات الربيع تهبُّ مضمَّخةً بعبير البلاغة وأريج البيان !

أختي الموقرة : إذا أمَّلتَ نحاسًا فوهبتَ عسجدًا مرصَّعًا بالألماس موشَّى بالزبرجد ! أو رنوتَ لهلالٍ فبزغ بدرٌ ! أو أردتَ نسمة عليلةً فأتاكَ الربيع يتبختر في بروده !
أو إذا توقف القلب وعاد للنبض من جديد ! أو إذا خرجتِ الروح ثم عادتْ إلى الجسد الهامد لينبض بالحياة والحركة مرة أخرى !
هكذا كان قلمي قبل تعقيبكِ البديع وبعده ! ووايم الله بعد تعقيبكِ الآسر المستمدّ من مدينة بابل قرَّ عزمه ، وتجدَّدَ أمله ، ورنا طرفه ، وزخر مداده ! فرضي الله عنكِ وأرضاكِ وأكرمكِ كما أكرمتني بهذا التعقيب البديع ! أكرمكِ الله في الدنيا والآخرة ! أكرمكِ الله في الدنيا والآخرة ! أكرمكِ الله في الدنيا والآخرة وأحلَّكِ دار الكرامة !
* لا أعرف من أنتِ لكن الذي في السماء جل جلاله يعلمُ كم أثَّرَ بي هذا التعقيبُ البليغ ، وكم هزَّ وجداني ، وزلزل كياني ، وبعثَ مالم يخمدْ ، ويعلم جل جلاله كم لهجتُ بالدعاء لكِ عند قراءته) !

في حالتين لا غنى لي عن الشاي حين السرور وحين الكتابة وقد أرغمني تعقيبكِ البديع على تناوله في هذه الساعة التي كنتُ سأغفو فيها قليلًا !

مسترٍيَحٍ آلُبآلُ
06-26-2025, 12:51 PM
الانيق جدا عبدالعزيز شكرا لك على الطرح الراقي :131:

السمهري
06-26-2025, 05:12 PM
أهلًا بالعزيز مستريح البال : جزيل الشكر ووافر الامتنان لمروركَ العذب (أسعدكَ ربي ووفقكَ) :399::399:

AMARYLLIS
06-27-2025, 07:36 PM
حب الطفولة الذي عاد مجددًا بعد سنين
التنقل من الحاضر للماضي وللحاضر مجددًا
والندم في الأخير

عمومًا أسلوب سردك مميز جدًا ورائع
أسلوب المجاز المستخدم يظهر مخزونًا للمحصول اللغوي الهائل
وأيضًا العديد من الكلمات الفصيحة التي قد لا نعرف معناها
إلا من سياق الكلام
قراءة القصص بمثل هذا السرد، وبمثل هذا النوع من الكتابة آصبح نادرًا
لكنك أخذتنا إليه...
سلم قلمك

السمهري
06-28-2025, 12:13 PM
الموقرة أماريلس : مرورٌ أضاءتْ له جنباتُ هذا الصرح وعبق المسكُ بأجوائه (رضي الله عنكِ وأرضاكِ وأسعدكِ سعادة الدارين على هذا التعقيب البديع) .

* لديكِ حسٌّ نقدي فهل دلفتِ إلى ميدانه ؟