المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معزوفة شبح الأوبرا، #3 ..~


رآنيا
04-28-2025, 09:22 PM
في طرف المدينة الملعونة حيث تتلاشى الأزقة في ضبابٍ كثيف كأنها تذوب من ذاكرة العالم تنتصب قاعة متهالكة حطامها شاخصٌ كشاهد قبرٍ نسيه الزمن
لم يكن أحدٌ يجرؤ على ذكرها بصوتٍ عالٍ تلك القاعة التي بلا اسم

ولم يكن أحد يتجرأ على الاقتراب منها
السكان يتهامسون عن نغمات غريبة تتسلل منها ليلاً كأنها نشيج مخلوقات محتضرة
ومجرد الاقتراب من شارعها كان كافيًا لأن يهمس لك الظلام بكلماتٍ لا تفهمها
وأن ترتجف عظامك كما لو عزف عليها مجهول

ذات مساء
في خضم عاصفةٍ بلا مطر أُرسلت إلي رسالة
لا مظروف ولا ختم
مجرد ورقة قديمة كأنها قُطعت من كتاب سحري مُحترق وعليها جملة واحدة بخطٍ مائلٍ متهالك
( تعال، النغمة الأخيرة تنتظرك )

لم أكن أحمقًا أو هكذا ظننت
لكن الفضول ذاك الداء اللعين عضّ على قلبي بأسنانه الحديدية
وعلى ضوء قنديلٍ خافت شققت طريقي بين الأزقة الضيقة إلى حيث تقف القاعة منحنية كظهر عجوز يتنفس أنفاسه الأخيرة

عند العتبة شعرت بالهواء يتغير
ليس برودةً فقط بل كان كمن يتحسسني ويهمس لي ويحاول أن يسحبني للداخل كما تسحب الأرض قدمي الساقط

خطوت

صرير الباب فتح صدري كله للخوف
كان الصوت كأنين حيوان تحت ضرب السياط
وفي الداخل رأيتهم
أربعة ! لا خمسة عازفين
وجوههم ساكنة، جامدة كأقنعة الدفن
كان الغبار يتراقص حولهم في الهواء يغلفهم بهالةٍ فضية بينما خيوط الضوء المنبعثة من النوافذ المحطمة كانت تبدو وكأنها شفراتُ سكاكين تخترق الظلمة

كانوا يعزفون سيمفونية حزينة
لم يكن لحنها يسمع بالأذن وحدها بل كان يُنقش مباشرةً على نخاع العظام

وفي أقصى القاعة تحت بقعة من ظلام أشد سوادًا من ظلام العالم رأيت المقعد الخشبي الفارغ ينتظرني

وفجأة
لُفّت الورقة القديمة حول قدمي كأنها تبرم وعدًا سريًا
لم أستطع الحركة
لم أستطع التفكير
كل شيء داخلي صرخ اهرب

لكن اللحن كان قد بدأ يكتب اسمي بالفعل

أنغامهم لم تكن موسيقى بل كانت صلاةً مشوهة استغاثةً مكتومة لمن يستطيع أن يسمع أصوات الموتى
كل نغمةٍ كانت تخدش جدران القاعة بأظافر خفية
كل لحنٍ كان يحفر اسمي بين ضلوعي
كان عزفهم يتصاعد كأن الأرض تحت أقدامي بدأت تنبض بنفس الإيقاع الكئيب
شعرت أن الهواء صار أثقل وكأنني أتنفس داخل صدر ميت

ثم توقفت النغمات فجأة
سقط الصمت على القاعة كسقوط لوحٍ من الرصاص
كل العازفين جمدوا مكانهم، رؤوسهم انحنت ببطءٍ نحو الأرض كما لو كانوا يتجنبون رؤية ما هو قادم

شعرت به قبل أن أراه
رائحة صدئة ومزيج من دخان قديم وورق محروق غمرتني حتى كادت تقتلع الوعي من رأسي

من عمق الظلمة خلف المسرح تزحلق الشبح نحوي
لم يكن يمشي
لم يكن يخطو
كان ينساب فوق الخشب العتيق كما تنساب اللعنة على صدر مذنب

تقدّم حتى صار قريبًا بما يكفي لأن أرى انعكاسي المرتجف في تشققات قناعه المحطم

رفعت عيناي إليه مجبرًا كمن ينظر إلى حتفه مكتوبًا أمامه
ووقع بصري على عينيه
فجوتان خاليتان من الرحمة لا تريانني بقدر ما تتذوقان رعبي

طيفٌ عملاق معتم، وجهه مموه كما لو انعكس على سطح ماء راكد
عيناه جمرتان ميتتان يحوم فوق العازفين وكأنه قاضٍ فوق منصة الإعدام

لم يكن الشبح كائنًا بسيط الملامح يمكن تأطيره بكلمات بشرية
كان أشبه بانبعاج الواقع نفسه
تشوهٌ حيّ في نسيج الهواء ويتراءى كظلٍ كثيف يأخذ هيئة رجل أو ما تبقى من رجل

قامته طويلة بشكل يثير الاضطراب
كأن عظامه امتدت أكثر مما يسمح به الجسد
كتفاه متقوسان كأنما يحملان ثقل ألف ندم
ومع كل حركة كانت عباءته السوداء أو ما يشبهها تتلوى خلفه كضبابٍ مسموم

ابتسامته كانت أسوأ ما فيه
لم تكن ابتسامة مرح ولا حتى شماتة
كانت تشبه انحناءة شفة ميتٍ أدرك فوات الأوان ولكن بعد فوات الأوان بزمنٍ طويل
ابتسامة كُتبت بالسكين على وجهٍ نُسي في قاع الجحيم

كانت يداه طويلتين أكثر من الطبيعي تنتهي بأصابع هزيلة كالعظام الجرداء
كل إصبعٍ أطول من سابقه كأنها صُممت للعزف على أوتار لم تصنع بعدُ لبشرٍ أحياء

كان الشبح لا يتحرك كما يتحرك الناس
بل كان يتزحلق فوق الأرض صامتًا كأنه ينزلق فوق بحيرة من دماء قديمة جفت لكنها لم تُنسَ
صمته كان أكثر رهبة من صراخ ألف روح تائهة

وعندما يتحدث إن تحدث فإن صوته يخرج وكأنه يصدر من حفرةٍ بلا قرار
كل كلمة منه تحمل ثقلاً يجعل عظامك ترتجف وكأنها تتذكر موتًا قادمًا

كان الشبح أشبه بتجسيدٍ للموسيقى نفسها ولكن ليس الموسيقى التي تطرب بل الموسيقى التي تبكيها القبور


توقفت الموسيقى وعمّ السكون لحظةً حادة كحد السكين
ثم همس الشبح بصوتٍ كاد يمزق نسيج الواقع
( لحن واحد... لحن واحد يكمل الطقوس... وتعودون )

ارتعشت العظام تحت جلدي وشعرت بأنفاسي تتجمد في صدري وبأن الأرض تحت قدمي تخونني
عندها فهمت الحقيقة الفظيعة
الموسيقى لم تكن لإرضائه بل لاستدعاء دمٍ جديد

سمعت حفيف خطوات خلفي
التفتُّ فرأيت المقعد الخشبي المهجور يفتح فكيه كأنه وحش قديم جائع
قبل أن أصرخ امتدت يد باردة باردة كالعدم وسحبتني نحو الداخل

عندما جلستُ هناك فهمت
كل من يسمع هذه السيمفونية يصبح واحدًا من العازفين للأبد
إلى أن يكتمل اللحن المستحيل

ومنذ تلك الليلة إذا اقتربت من القاعة المنسية ستسمع عزفًا أعمق أكثر حزنًا يحمل نغمةً جديدة، نغمةً تعرفها
هي نغمة نحيبك

عندما جلستُ على المقعد الخشبي تحت وطأة ذلك السحر الكئيب شعرت أني أغوص في طبقات الزمن كأنني أُسلخ من جسدي طبقة طبقة

بدأت أناملي تتحرك فوق آلة الموسيقى دون إرادتي
وكانت الأوتار تنزف نغمة من لحم روحي
كل عازفٍ بجانبي كان يفتت نفسه مع كل قوسٍ يمر فوق الأوتار
كانت أصواتنا نحن، نحن لا تختلف عن أنين أطفال مدفونين تحت الأنقاض

الشبح كان يبتسم تلك الابتسامة الممزقة التي لا تليق إلا بالكائنات التي نسيت معنى الرحمة

أدركت متأخرًا أن اللحن الذي كنا نحاول إكماله لم يكن أغنية بل كان تعويذة
تعويذة لإعادة الشبح نفسه إلى جسده البشري

ومع آخر نغمة أطلقتها أصابعي المهترئة رأيت الجدران تتنفس والأرض تتشقق والسماء فوقنا تنفطر كما لو كانت جفنًا يفتح عينه على كابوس لا نهائي

الشبح ضحك ضحكةً كسرت الهواء ثم بدأ يتجسد
لحمٌ، دمٌ، عظامٌ قديمة تغلفها أقمشة العفن
في المقابل بدأت أجسادنا نحن تذوب وتتحلل وتُمتصّ إلى جوفه كما يمتص الرمل أقدام الغارقين

في اللحظة الأخيرة عندما لم يتبقَّ مني سوى عيناي العالقتان بالفراغ رأيت الحقيقة المُرعبة
كل نغمة عزفناها كانت تنهش قطعة من وجودنا تملأ بها جسد الشبح حتى أصبح هو نحن جميعًا
مئة روحٍ في جسد واحد مئة صرخة مكتومة خلف ابتسامة واحدة

وفي صمت القاعة الخانق جلس الشبح أو ارواحنا الممزوجة على العرش الخشبي
يرفع قوس الآلة الموسيقية يستعد لعزف مقطوعة جديدة
ينتظر مستمعًا آخر
مقعد آخر
مقعد ينتظر أن تمتلئ فراغاته بعظام من يجرؤ على الاستماع.


~

White
04-29-2025, 06:47 AM
قصة رعب ممتازة
الفكرة رائعة والاقتباس من المقطع الموسيقي رهيب
حولتها لفكرة مرعبة وكثيفة الصور
توقعك في موقع الراوي لتشعر بكل ما يحيط به

احسنت يعطيك العافية وفالك التوفيق

:الجوري:
04-30-2025, 02:54 AM
اكثر واجمل و اروع القصص الرعب الي قريتها
بشكل جذاب وموسيقي
يعني من بدايتها
هي قلعه محد يجيها
وكل شي بيجانبها ينسحب جزئيا
كان القصه من بدايتها تمهيد للي بعده
انا بصراحه اقراها وانا خايفه
مكان الناريتر الاول خايفه يصير فيه شي
كنت بس ابي اعرف هي بنت ولا ولد وماعرفت حتى بعد مادخلت القصر
اقصد القلعه المخيفه
لان جاتها رساله سحريه وهذي الرساله اعطتني فضول
نفس ماقالت او قال
كان اسنان قلبي متقبضه عليها
ولما دخلت القصر الي هو بيت الرعب بالنسبه لي
ماجا في بالي ولا دقيقه ان روحها بتكون سجينه المكان الى الابد
وصوت الشبح والوصف الدقيق له جعلني اشوفه كان امامي
حتى الصوت حقه نفس المقبره صدق كذا تخيلته بالوصف
الوصف في القصه مذهل مذهل ومذهل للحد الي مابعده مذهل
ماشاءالله على الكاتب فنان للغايه
غير ان ترا هم مقاعد ولها اسنان وتسحب الروح
هم يغنون سمفونيه ولازم تكون مكتمله عشان ترجع جسد وروح الشبح
وكان الكاتب يوصف لنا
ان هذا الشبح لما انولد تفرقت كل ارواحه على العالم اجمع
وهو جاي يلم شملهم بهذه السمفونيه الي محد يسمعها غير هذه الارواح الخاصه فيه
هو وهو يعرفهم بدون مايتكلمون
لذلك لما ورانا اخر لقطه لعيون الناريتر
الي هي نحن عيون القاري
حسيت صدق انا جزء من هذا الشبح الكبير
وروحه مضيعها في داخلي وراح ترجع لهذا الشبح الكبير
الي طال انتظاره في هذه القلعه الكبيره
الي يخافون يجونها وهم مايدرون عنه ان مضيعهم الناس ذول الي ارواحهم تخصه
بصراحه فيها معاني كثيره وجميله وانيقه
تاخذنا لعالم اخر مكان محد زاره
توقعات مانتوقعها ولاننستنتجها بسهوله
مثل هذا الشبح العملاق الي تجسد بشكل انسان يمتلك مئه روح
ياجمال المنظر
ابدعت ياكاتب القصه وتفننت بالسرد الادرماتكي
دمت ودام ابداعك
لك خالص شكري وتقديري
في امان الله وحفظه

احساس غريب
05-01-2025, 05:28 PM
حسيت اني اتفرج على فيلم رعب القصة كذة الوصف لشكل الشبح و القاعة و كل التفاصيل القديمة خلتنا نعيش الجو و نتخيله كيف جد ابدعت في الوصف و التفاصيل

من البداية الى اخر القصة عيشتنا معاك بكل خطوة كتبت و ابدعت في الكتابه
ايها الكاتب المبدع يعطيك العافية و بالتوفيق لك

نايف
05-01-2025, 07:28 PM
قصه كتبت بحرفية عالية
امتزج فيها جمال السرد بالحس الادبي
اركانها مكتمله واللغه التصويريه بها ممتازه
ابدعت كثيرا ي مبدع

AMARYLLIS
05-03-2025, 08:54 AM
رغم أني كتبت من نفس الإلهام معك
لكن قصتي تبدو لطيفة وبسيطة جدًا مقارنة بقصتك:367:

الجو المرعب والمخيف الذي ضر بصاحبه بسبب فضوله
ولو تجاهل الرسالة لما حدث له ما حدث
حسيت في القصتين رسالة وتحوّل ~ربما صدفة :d لكن شدتني جدًا
توظيف نفس الفكرة بقصص وأحداث مختلفة يعني
استخدامك للإلهام كان ممتاز ويشبه جو الفيديو كثيرًا
والأجمل أنها طويلة جدًا
الأكيد سأفكر بقراءتها مجددًا :d :421:
لأنها قصة رائعة السرد
سلم قلمك

محال
05-03-2025, 03:32 PM
.


رآنيا
القصة مرعبة اكثر من السابقه
أيضاً كانت متطابقة مع الفيديو
قبل ان تتحول الى مشهد آخر
ونهاية غير متوقعه واليمه في نفس الوقت
للأمانة اللغة غير عادية أبداً
تجعلك تتوقف لبعض الوقت ثم تكمل
مبدعة ومتميزه ف السرد والترابط
والله يعطيك العافية وماقصرتي
تحياتي

شـ♞♜♕ـطرنـج
05-05-2025, 09:11 AM
ناوية تقضي علينا
بقصص الرعب هههههه

لو رصاصة قرأت قصتك
لاستقالت
من خدمة العسكرية


التفاصيل في القصة
شديدة جدا
أوضح حتى من كاميرات التصوير

تذكريني القصة بسفاحين
القرن السابع عشر

مع انوا قصصك
اعلى عيار من الجرائم المنظمة
ودقة بموت لا يخطأ

تحياتي لك