المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المهاجر - قصة قصيرة


البراء الحريري
02-20-2025, 03:22 AM
في صالة مطارعاصمة عربية على قيد التدنيس ...جلس فاضل غارقا في يحر أحلامه التي أبت إلا أن يزداد ضغطها عليه كي يتخذ قرار الهجرة ويبدأ تنفيذه.
وعده أبوه بأن يؤمن له مصاريف السفر بعد جني محصول العنب من (بستانهم الصغير)
في فضاء جميل كان يسير إلى حلمه الكبير، وكل همه أن يحزم كرامته في حقيبة سفره ويرحل عله يستعيد ولو القليل مما سلب منه
وكخطوة جريئة منه استطاع إخبار حبيبته سعاد للقائه في المكان المعهود فسعاد حبه الأول والأخير والذي يمتد لمسافات بعيدة ويشغل مساحات ناصعة من الصدق والتفاني وعمق المشاعر الصادقة فهو لا يثق إلا بقلب سعاد
حضرت سعاد وفي إحدى يديها وردة حمراء ملفوفة بمنديل ابيض وهذا تذكار مني أرجو ألا تفرط به أبدا

وفي هدأة الليل والتهاب المشاعر واختلاط وجع الفراق بوعود مؤجلة للقاء جديد يكونان فيه كحلم يقرأه التأويل من فنجان عرافة.
اخترق هذا السكون صوت انفجار برميل، سقط على بيت سعاد فأحاله إلى ركام، وشاءت الأقدار أن تكون هي الناجية الوحيدة من بين أفراد عائلتها.
فاضل يتذكر كل هذه التفاصيل المؤلمة، يتململ، يعدل جلسته، يحاول نسيان هذه الذكرى المؤلمة، تنهد واخذ نفس عميق ومسح دمعات عينيه المترفات.

صوت النداء الأخير ينطلق من مكبرات الصوت في قاعة الانتظار... على الركاب المغادرين على متن الرحلة (512) المتجهة إلى (بنغازي) التوجه إلى البوابة رقم (13) وشكرا.
صوت هدير محركات الطائرة يهز قلبه، الركاب يبحثون عن أرقام مقاعدهم، ثم انطفأت الإنارة والتزم الجميع الصمت.
تسارعت الطائرة ثم أقلعت وفاضل ينظر من نافذة الطائرة عله يرى بستان العنب ، وسعاد ، و كل ما تركه خلفه.

رجع برأسه للخلف وبدأ يسترجع شريط ذكرياته التي كانت تسكنه كطيف تهدج بغنائه وكيف كان يرقص على عزف أنفاسه المبهمة التي لحنتها أحلامه المنتشية بغدٍ أجمل.
يتذكر صوت المؤذن الساحر، وصفاء ماء الجدول الذي كان يتغلغل بين أصابع سعاد، يتذكر البيادر، ومواسم الحصاد، ومواويل الحصادين الشجية.
يتذكر صوت امه يا (فاضل تعال العشاء جاهز)، يتذكر كيف انه وحال الانتهاء من العشاء يخلو أباه الى (أرجيلته) التي تزيد من شدة سعاله ورائحة (المعسل) التي تطوف المكان، أما طرائف أخيه جابر فحدث ولا حرج وعلى رأي الأغلبية (دمه خفيف). وخاصة أن دعاباته زادت حين وعده أبو فاضل بشراء دراجة نارية في موسم قطاف العنب القادم.
يا ساتر.. يا ساتر.. قالها فاضل فلقد تعرضت الطائرة لمطب هوائي

ماهي إلا لحظات حتى أغمض فاضل عينيه من جديد وفي هذه الأثناء تذكر خصام سلوى العذب كرضاها، والذي كان لا يزيد قلبيهما إلا قربا، ولا النزق إلا ألقاً، خصاما لا ينقضي إلا وقد ذابت روحه شوقا، وشوقها توقا وتوقهما سعادة حلاوتها في شغاف قلبيهما.
وفجأة وقفت المضيفة أول الممر وقالت اربطوا الأحزمة استعدادا للهبوط في مطار بنغازي، فاضل يعجبه صوتها وكأنه ترانيم تشق درب الأمل في عبورها نحو حواسه المتحفزة لما هو آت.

لم يجد فاضل صعوبة في الحصول على شريحة جديدة لهاتفه النقال، كانت فرحته عارمة وهو يكتب رسالته الأولى الى سعاد:
حبيبتي يا طهرا يتوضأ منه النور، يامن كنتِ وستبقين مغيثة قلبي المجروح، البيلسان في رحاب روحكِ النقية وحتى نلتقي لكِ حبي وقبلاتي.
بعد وصوله بثلاثة أيام التقى فاضل بالسمسار الذي سيؤمن انتقاله إلى إيطاليا وتم الاتفاق بينهما على المقابل المادي وموعد الرحلة.

في الموعد المحدد، ومن ضفاف ساحل مهجور كانت بداية النهاية، فعندما تعزف الحان الأمل فوق جبال من رخام،وتشرق نجمة بؤس، على مآسي العيون التي تاهت في ظلمة الأقدار، لابد وأن تعلو عقيرة حزينة في بحور تلونت برماد الفقد.
على طرف القارب جلس فاضل وهو يرتدي سترة النجاة، يمسك هاتفه النقال ليقرأ آخر رسالة وصلته من سعاد:
متى ستأخذني إليك يا حبيبي وتدثرني بدفء عينيك؟ متى سنلتقي ونرقص معا على أنغام ( صوت العصافير) وتفرح لعناقنا زهور النرجس وتتمايل أغصان الزيزفون طربا ، وتبدع الأبجدية في وصف شغفنا .؟

ساعات تمضي والقارب يمخر عباب البحر، وأصوات الهاربين الى المجهول تختلط مع هدير الموج تقطع سكون الليل وفاضل مستسلم لأمل الوصول الذي كان يظنه قريبا.
يزداد ارتفاع الأمواج ساعة بعد أخرى، ويبدأ القارب بالتمايل، ترتفع أصوات الابتهال والدعاء، يغمض فاضل أهدابه وخلف أبواب الأحلام تسود العتمة، ويذهب الليل في سبات طويل، وترفض تباشير الفجر أن تظهر.

وسعاد تبحث عن حبيبها بين أمواج الأثير، تسأل فوهاته خبرا يطمئنها، تسامر البحر ، وتسأله عن قارب أبحر إلى موانئ مجهولة

أم فاضل تغني:
"يا فاضل الله على الغربة ماليا حدا يسليني
ولهانه روحي على الصحبة مع دمعي تنزل شراييني
لما أخذوني على قبري شالوني بنعش الغريبين"
يقطع غناءها صوت برميل متفجر يسقط على كرم العنب
ثم سكون إلا من صوت لحن جنائزي

وقبالة السواحل الإيطالية
وجد الصيادون على سطح الماء
منديل ابيض .... ووردة حمراء.. وبينهما نور يشع من طهر لا ينتهي


(( البراء الحريري ))

معزوفة
02-20-2025, 07:04 AM
ذكريات فاضل تنبعث حية من بين السطور
هي ذكريات مؤلمة لكنها مشبعة بالأمل أيضًا
خاصة في قلبه المملوء بحب سعاد
والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من حلمه في النجاة

امتنان بحجم السماء لهذا النص الأدبي فهي بحد ذاتها نصٌ يفيض بالجمال والتقدير
شكرا لك وسلمت يداك
ختم وتقييم :371:

راما
02-20-2025, 11:17 AM
،.

وصف دقيق لما كان ..
بعبارات ملؤها الأسى ..
الوفاء ..
والكثير من الخيبه والألم ..


البراء
أبدعت
هنيئاً لنا ولهذا المكان بكاتب رائع
:123:

هشام
02-20-2025, 08:35 PM
يا الله! أي إبداع هذا؟ وأي وجع محبوك بهذه الدقة والجمال؟
نصك مش مجرد سرد نصك ملحمة إنسانية تحكي عن الحب، الغربة، الحلم، والمأساة
هذا النص مش مجرد كتابة هذا نص يُشعر القارئ أنه أمام لوحة مرسومة بالحروف مشاهد تتلاحق كأنها فيلم سينمائي مليء بالعاطفة والصور القوية
شكرًا لأنك كتبت بهذه الروح شكرًا لأنك سمحت لنا أن نعيش هذه الرحلة حتى لو انتهت بالغرق.. الغرق في الجمال والحزن معًا

جوانا
02-24-2025, 02:20 PM
قصص المهاجرين بتحزني كتير خاصة انه اغلبهم يغرقوا بالبحر قبل يوصلوا :(

ابدعت بكتابة القصة :168:

رآنيا
03-08-2025, 06:12 AM
وفي النهاية المنديل الأبيض والوردة الحمراء طافا على سطح البحر
كأنهما إعلان أخير أن الحب أقوى من الموت
وأن الطهر لا ينتهي حتى وإن ضاعت الأحلام بين أمواج البحر وقسوة البشر

ابدعت جدًا وامتعت
سلمت ويعطيك العافية يارب

~