كثير من أصحاب المواهب لا يحتاج سوى شرارة أولى حتى ينطلق ، هي الإشارة الأولى ، ويا لسعد المشير حينئذ .. أن تبني مجدًا بكلمة ، أن تُحيي أمة بإشارة . يأتيك الشاب في زهرة شبابه ، فتتراءى لك في عينيه آيات الألمعية ، ومخايل النبوغ ، وأمارات الذكاء ، تلقي عليه الكلمة ، فلا يفتأ يذكرك بها حتى يلقى الله ، إنه التوفيق ! كم من قائل : إنما نفعني الله بكلمة من فلان ، وما كلمة فلان ؟ كلمة ربما قالها على غير ما استحضار لتأثيرها ، وكأن بذرة سقطت من يدك فرعاها الله حتى أثمرت وأينعت ! في فترة فتوَّته يتعطش الشاب للكلمة .. للتوجيه ، هذا هو موسم البذر ، هذه الأرض الصالحة ، فبذرة اليوم هي شجرة الغد ، ويد اليوم الطريَّة هي اليد التي تكافح غدًا ! ما أسف صاحب موهبة على شيء كذكراه أن كان بإمكانه في يوم ما أن يكون شيئًا ، أو أن يكون أعظم منه اليوم ، غير أنه قد عدم المساعد ، وفقد الموجه الحصيف ! كم ذا تلقى من أصحاب المواهب اللامعة بعد أن تزحمه مشاغل الحياة يلتفت إلى ماضيه ، فيتنهد ، أواه لو وجدت في ذياك الزمن من يشد بيدي ، أواه ، إذن لكنت وكنت ! قرأت مرة للرافعي : ( الناس متهيئون للإيمان ولكن ينقصهم من يكشف لهم عن أماكنه ) نعم ، ما أكثر المتهيئين ، وأحوجهم إلى أولئك الحذاق الكاشفين .. الكلمة التي تغير مسار الحياة لا يلزم أن تكون محاضرة ، أو سلسلة دروس ، ما يدريك ؟ قد تكون كلمة تلقيها في كشتة برية ؟ في جلسة عشاء ؟ ذات سَمَر في ليلة شاتية ؟ يجلس أمامك شبيبة أطهر من ماء السماء ، تشعر بشغف في أعينهم لحروفك ، تحس باللهفة والتوق للكلام تلقيه ، من يدري ، أي كلمة تصنع أمة ؟ أي حرف ينهض بجيل .. كأنَّ الكلام قد جرَّ بعضه بعضًا ، وجماع المراد : من أحيا أرضًا ميتة فهي له ، ما أكثر الأرواح الظمأى المتعطِّشة ، كم من موهبة طمرتها الأيام ، وساقٍ اعوجَّ إذ لم يجد المساند ! كان ابن جماعة يقول : ( كنا إذا رأينا في صبي نباهة ألقينا عليهِ شِباكنا ، فلا نخرجه إلَّا عالمِاً أو متعلمًا ) عن الأيقاظ لدى كثرة الرُّقود ، عن أصحاب “الشِباك” البيضاء أتحدَّث ! [ أ.عزَّام الغطيمل ]